الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
الجماهير هي علامة النجاح في عالمنا اليوم، فكلّما زاد عدد المتابعين زاد الإحساس بالقوّة والتأثير. حتّى في زمن يسوع، كانت الجموع تتبعه، من دون إعلام أو منصّات رقميّة، ولكن بسبب حضوره وكلماته التي كانت تسبق خطواته (مرقس ٣:٧-٨). لكنّ السؤال المهمّ هو: أيّ نوع من الجذب كان يسوع يمارسه؟ هل كان يسعى خلف الجماهير، أم كان يكشف لهم طريقًا جديدًا للحرّيّة؟
كلمات التحدّي: إنجيلٌ يقلب الأولويّات
يواجهنا يسوعُ اليوم بكلماتٍ قاسية:
«إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا». (لوقا ١٤: ٢٦-٢٧).
تتحدّانا هذه الآية لأنّها تصطدم بمفهومنا التقليديّ للعلاقات العائليّة. كيف يطلب منّا يسوع أن "نبغض" أهلنا؟ كيف يتناغم هذا مع تعليمه عن محبّة الأعداء (متّى ٥: ٤٤) أو عن السامري الصالح (لوقا ١٠: ٢٩-٣٧)؟ لكنّ يسوع هنا لا يدعونا للكراهية بحدّ ذاتها، بل إلى إعادة ترتيب أولويّاتنا بحيث تصبح دعوة الله وملكوته فوق كلّ ارتباطٍ آخر، حتّى فوق علاقات الدم. في عالم تسوده البنى الاجتماعيّة القمعيّة والروابط التي تستعبد الإنسان، يريد يسوع كسر كلّ ما يقف عائقًا أمام الحرّيّة الحقيقيّة.
المسيح يوسع دائرة العائلة
إنّ قراءة هذا النص تجعلنا نراه ليس فقط على أنّه تحدٍّ شخصيّ، بل دعوةٌ لتحريرٍ جماعيّ. فالمسيح هنا لا يحطّم العائلة، لكنّه يوسع مفهومها، ليشمل المهمّشين والمنبوذين، ليشمل الذين حُرموا من الانتماء. فهو الذي قال: «ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتموه» (متّى ٢٥ :٤٠). المحبّة لا تتوقّف عند العائلة البيولوجيّة، بل تمتدّ إلى الفقراء والمضطهدين والمستبعَدين. تعليم الكنيسة الاجتماعيّ يؤكّد هذا المبدأ، إذ يدعونا إلى رفض كلّ هياكل الظلم التي تقسّم البشر إلى فئات، وإلى بناء جماعةٍ مؤمنة تمارس التضامن الفعليّ.
في هذا السياق، يصبح حمل الصليب ليس مجرّد احتمالٍ للألم الشخصيّ، بل مشاركةٌ في حمل آلام الشعوب. إنّه خيارٌ يتجلّى في الدفاع عن حقوق العمال وعن المهاجرين وعن المظلومين سياسيًّا واقتصاديًّا. هنا يصبح الصليب علامةً للتحرّر وليس للخضوع.
يبغض حتّى نفسه أيضًا؟ الحرّية من كلّ قيد
دعوة المسيح للبغض لا تعني الرفض العاطفيّ، بل التحرّر من القيود التي تعيق التلميذ عن السير في طريق الملكوت. إنّه يدعونا إلى "بغض" كلّ ما في داخلنا ممّا يعوق التزامنا بالحقيقة، سواء كانت امتيازات اجتماعيّة أو رغبات أنانيّة أو مخاوف من الخسارة.
من هذا المنظور، تتلاقى هذه الدعوة مع مفهوم الكنيسة للخيار التفضيليّ للفقراء. فالتلميذ الذي يختار ملكوت الله فوق كلّ شيء، هو من يضع احتياجات الفقراء والمضطهَدين أوّلًا، وهو الذي يرى في المسيح صورة المحرِّر، كما قال بولس: «لأجلك نمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح» (رومية ٨ :٣٦).
هل مستعدّون؟ الخيار بين ملكوت الله وملكوت العالم
السؤال الجوهري الذي يطرحه علينا هذا الإنجيل هو: هل مستعدّون؟ تلك الجموع التي تبعت المسيح، هل كانت مستعدةٍ للعيش وفق هذا المبدأ؟ أم أنّها، حين وجدتْ أن طريقه يمرّ عبر الجلجلة، اختارت أن تتراجع؟ يضعنا المسيح أمام خيارٍ واضح: إمّا أن نكون مثل القائد الذي يذهب إلى الحرب من دون استعداد، أو مثل الرجل الذي يبدأ بناءً ولا يستطيع إكماله، فيصير أضحوكة (لوقا ١٤: ٢٨-٣١). لكن من يختار طريق المسيح، يكتشف الفرح الحقيقيّ، لأنّه يتذوّق طعم الحرّيّة. إنّه الخيار الذي يجعلنا مستعدّين أن نقول مع بولس: «ليس أنا بعد أحيا بل المسيح يحيا في» (غلاطية ٢: ٢٠). هذا هو ملكوت الله، حيث لا نعيش لأنفسنا، بل نعيش إخوةً وأخواتٍ، حاملين صليبنا مع المضطهدين، ومع الفقراء، مع كل الذين ينتظرون التحرير الذي يجلبه المسيح.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ