كمال زاخر
الإثنين 31 مارس 2025
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[10] اشكاليات التعليم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"لأَعْرِفَهُ" الكلمة المفتاحية لهدف وغاية ومنهج التعليم المسيحى الأرثوذكسى، وهو تعليم لا يقوم على المعرفة المجردة، ولا يطلبها لذاتها، إنما هى مرتبطة بشخص ربنا والهنا ومخلصنا يسوع المسيح، لذلك فهو المعلم الأساسى بل هو، بحصر المعنى، المعلم الأوحد لأسرار الملكوت، كما يخبرنا الإنجيل بغير مواربة "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ."، أى هو الذى أعلن لنا ماهية الله، بعد أن كان إلهاً محتجباً، شوهته الأساطير، وقد انتبهت الكنيسة مبكراً لأهمية لاهوت التجسد، واهمية الفهم الصحيح لطبيعة المسيح، وسجلوا هذا فى ادبياتهم، ونقلوها بالتتابع الجيلى فيما يعرف بـ "التقليد"، وعلينا أن ننتبه أن التقليد هنا مختلف تماماً عن التراث، لذلك حرصت الكنيسة على "رسولية التعليم"، فى مواجهة التعاليم التى حاولت أن تخلط بينها وبين النظريات الفلسفية التى شاعت فى القرون الأولى للمسيحية، وكان لمدرسة الاسكندرية اللاهوتية دوراً بارزاً فى الدفاع عن الإيمان المستقيم.

فالتقليد ليس بديلاً عن الإنجيل وتعليم الآباء الرسل، ولا هو تعليم مواز، بل هو سور حماية لهما لتأكيد أن ما نؤمن به هو عين ما كانت تؤمن به الكنيسة الأولى وتعيشه، وفى هذا يقول القديس بولس الرسول فى رسالته الأولى لكنيسة كورونثوس "وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضًا تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثًا! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا".

لذلك نقول أن التقليد هو التسليم، بامتداد تاريخ الكنيسة. وحتى لا تترك الكنيسة الإيمان المسلَّم لنا مرة، عُرضة لاضافات أو حذف أحد، أجملته فى ليتورجيتها، القداسات والتسبحة، والتى توجز لنا لاهوت التجسد والفداء. وتشرح واقع المحبة الإلهية التى رفعت عنا حكم الموت كعقوبة و "حولت العقوبة لنا خلاصاً".

والليتورجية هى الدرس الدائم والقائم، الذى لا يمل من تذكيرنا بقصة الحب الإلهى والتى تختتم بالشركة الافخارستية فى كل مرة، والكنيسة عبر ممارساتها، وطقوسها، تضع أمامنا خبراتها تأسيساً على منهج القديس يوحنا "الذى عرفناه الذى رأيناه ولمسته ايدينا"، وتترجم هذا فى ترتيبات الصلاة والصوم والعبادة وعمل الرحمة باعتبارها ادوات تعليمية حياتية. ليس فقط بهدف ان نتمثل بالمسيح بل أن نعيشه.

لم تقع الكنيسة فى فخ الجمود بل قدمت لنا فى ليتورجيتها نموذجاً للتفاعل مع الحياة والثقافة والبيئة وهذا يظهر جلياً فى ترتيب القراءات اليومية التى تضعها فى قداس الموعوظين، والموجه بالأساس للمقبلين على الايمان وقبل اقتبالهم للمعمودية، ويضمها كتاب ً "القطمارس"، ويتلى يومياً بامتداد السنة، والذى لم يتم ترتيبه وجمعه لقراءاته بشكل عشوائى، أو حتى عبر وحدة الرسالة بينها، بل ربطته بالحياة اليومية والمواسم والمناخ، تقدم فيه الدعم اللاهوتى مستمداً مما قاله وفعله وعلَّم به الرب يسوع المسيح وتناوله تلاميذه فى رسائلهم، فى حكمة بالغة توثق العلاقة بين المتلقين وبين الكنيسة، التى تعيش معهم يومهم وحياتهم، ليس فقط فى الصلوات التى ترفعها من أجل النهر والزرع والمناخ، بل وفى قراءاتها التى تُعمِّد ما يعيشه وتدخله فى دائرة اهتمامها وتوجيهها، والكنيسة تقسم قراءاتها بحسب مناسباتنا الحياتية،:

ـ قطمارس السبوت والآحاد والذى يدخلنا، باعتباره يختص بقراءات يوم الرب، الى دوائر معرفة الرب يسوع فى لاهوته وفى تجسده.
ـ قطمارس الظهور الإلهى.
ـ قطمارس الصوم الكبير.
ـ قطمارس البصخة.
ـ قطمارس الخماسين.

وهنا لابد أن احيى العمل الموسوعى ـ المُجهِد ـ الذى قدمه لنا الاب القمص كيرلس عبد المسيح ـ كنيسة السيدة العذراء بالفشن (بنى سويف) ـ فى موسوعة كتب "حكمة الآباء المصريين فى ترتيب قراءات السنة الليتورجية".

وفى سياق القراءات يأتى "السنكسار" وهو الكتاب الذى يرتب تذكيرنا بسير القديسين، سواء فى يوم رحيلهم أو فى كرازتهم، أو فى ذكرى تأسيس كنيسة، أو غيرها من أعمالهم الجليلة، كخبرات حية عاشتها الكنيسة تترجم كم صنع بها الرب وتمجد، ولا يمكن ان ينفردوا بالمشهد خلوا من الرب يسوع، بل تضعهم الكنيسة أمامنا كنماذح نقتدى بهم، كتوجيه ق. بولس فى رسالة العبرانيين: "اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله. انظروا الى نهاية سيرتهم فتمثلوا بايمانهم."

كان الإنقطاع المعرفى الذى اشرنا إليه كثيراً، والذى داهمنا أكثر من مرة عبر تاريخنا المديد، مع كل انتقال لنا من لغة إلى أخرى ـ رضاءً وقهراً ـ هو العامل الأهم فى ارتباكات التعليم، حتى إلى التشوش والغموض، وهو ما انتبه له رواد التنوير فى العصر الحديث، وقد هالهم ماوصلنا إليه من جمود وتراجع، فكانت الصحوة التى تزامنت مع اطلالة القرنين التاسع عشر والعشرين، وتكللت فى العقود الأخيرة منذ منتصف القرن العشرين بتنامى السعى لترجمة تعليم الكنيسة والآباء التى دونت فى القرون الأولى للمسيحية باليونانية، مباشرة، وليس عبر لغات وسيطة، والذى يبعث الطمأنينة فى قلوبنا تفاعل أجيال جديدة مع هذا التوجه، فراح نفر منهم بهدوء وبعيداً عن الصخب، يتقنون يونانية الآباء ويعكفون على ترجمة أعمالهم، وتوثيقها فى كتب معاصرة شكلت ظاهرة ايجابية كشفتها أروقة معرض القاهرة الدولى للكتاب 2025، وهو ما ستجنى الكنيسة ثماره فى عودة الوعى ومن ثم عودة الروح خلال السنوات القادمة.

وبحسب واحد من أهم الباحثين اللاهوتيين المعاصرين، الدكتور جورج حبيب بباوى، فإن الفكر الأرثوذكسى اليوم يواجه ثلاثة أخطار رئيسية شاعت بيننا وهى:

أولاً: الفكر اللاهوتى الذاتى الذى يعتمد على خبرة ومعرفة ذاتية دون أن يوضع هذا الفكر على اساس ما جاء بالتقليد الكنسى.

 ثانياً: الفكر اللاهوتى الكتابى الذى يكتفى بالكتاب المقدس وحده دون أن يراجع ما شرحه الآباء لنصوص الكتاب بعهديه.

ثالثاً: الفكر اللاهوتى العقلانى الذى يعتمد على المنطق والمعرفة البشرية دون أن يضع الليتورجية فى اعتباره كأساس للمارسة الروحية السليمة.

ويطلق الباحث تحذيره "نحن هكذا نترك الأرثوذكسية ونبتعد عنها لأننا نترك مصادرها الأصيلة وننطلق من قاعدة تصوراتنا الخاصة وفكرنا الذاتى أى أننا على وشك أن نصبح غير ارثوذكس دون أن ندرى."

وفى حديثه عن خدمة التعليم يقول الأب متى المسكين أن دروس التعليم "هى دروس حياة، حياة أبدية تعد الشاب لا لمواجهة أسئلة الناس بل اسئلة نفسه، وترفعه لا فوق مستوى الآخرين ليتعالى بالمعرفة، بل ترفعه بالحق فوق مستوى أهوائه وشهواته ونزواته ليكون أصغر الكل والمستمتع بالمتكأ الأخير، لا تؤهله لمعرفة الكلام وكتابة الكتب بل تؤهله للتعرف على نعمة المسيح لكشف خطاياه وعيوبه."

ويستطرد الكاتب "هى دروس لا تلقن للعقل على مستوى الحفظ وتكديس المعلومات بل هى قيادة وريادة فى ميدان الروح يتحول فيها الكلام والنصح والتوجيه والتوبيخ إلى إيمان ورجاء وحب، يعمل ويظهر فى السلوك والأخلاق والطباع؛ حيث وسائل الإيضاح لا تعود أوراقاً وأخشاباً وألواناً، بل برهان الروح فى القلب وإحساس الضمير وظهور المسيح فى أعماق النفس وعشرة الآباء والأنبياء والقديسين ومعايشة قصص الكتاب كما هى يوماً بعد يوم. والإمتحانات والجوائز لا تعود مجرد صور وهدايا، بل النجاحات والإخفاقات التى يعيشها الخادم ويوجهها المخدوم تجاه وصايا المسيح وتعاليمه، وحيث لا يعود الدرس ميعاده ساعة بل يمتد ليغطى حاجة العمر كله، والإمتحان فى نهاية السنة لا يشهد قط على كفاءة التلميذ بل يوم الدينونة".

واحدة من اشكاليات التعليم الخلط بين خدمة بناء الإنسان حال حياته وسط الناس وفى مشاغله ومسئولياته اليومية، وهى خدمة يتحملها المدعو للكهنوت، وبين بناء من يختار العزلة والرهبنة كنسق حياة، وهى خدمة يتحملها المدعو للرهبنة.

الخلط بينهما انتج لنا جل ما نعانى منه من ارتباكات وهواجس بل ومتاعب حياتية، نعانى منها فى الكنيسة وفى البيوت بل وعلى المستوى الشخصى عند الخدام على اختلاف مواقعهم الكنسية، وبين المخدومين فى حياتهم الروحية والعملية.

لذلك جاء تنبيه الأب متى المسكين على ضرورة التفريق بين دعوة الكهنوت ودعوة الرهبنة "فالمدعو للكهنوت والخدمة بين الناس يبنى قلبه وفكره وكل حياته على سيرة الرسل القديسين، واضعاً أمام عينيه باستمرار سيرتهم فى الجهاد المتواصل لخدمة المؤمنين ليلاً ونهاراً، فى وقت مناسب وغير مناسب، وما يلزم لذلك من قطع المشيئة والتنازل الكامل عن كل الحقوق الشخصية، والأمنيات والأحلام التى تتعارض مع جهاد الخدمة، حتى ما بدا منها صالحاً فى حد ذاته، كالإستغراق فى الوحدة والبعد عن الناس والعزوف عن الكلام، إلا إذا كان بالقدر الذى يزيد الخدمة قوة ونجاحاً، أى أن يكون ذلك لا بدافع مجرد استرضاء النفس، بل لإصلاح عجزها، وبالنهاية لزيادة كفاءتها للخدمة."

فيما يرى أن المدعو للرهبنة "عليه أن يبنى قلبه وفكره وكل حياته على سيرة الآباء القديسين واضعاً أمام عينيه باستمرار وصيتهم الأولى والعظمى أن يبتعد عن العالم والرئاسات، وأن لا تستهويه الخدمة بين الناس مهما كانت الإلحاحات، وهكذا عليه أن يتمسك بتعاليمهم تمسكاً لا هوادة فيه وإلا سيجد نفسه فى النهاية راهباً بلا رهبنة يعيش تحت إسمها ولا يحمل نيرها، يتكلم باسمها وهو غريب عن دعوتها."

ويضع الأب متى المسكين اصحاب الدعوتين أمام خطر يتهددهما "فكما يحارب الراهب بحب الخدمة، يحارب الكاهن والخادم بحب الوحدة، وكلا الحربين هما إلحاح من اللاشعور للهروب من الواقع، وذلك إنما يكون بسبب إخفاقات عارضة لا ينبغى أن ينهزم الإنسان أمامها،  إذ بمجرد أن يتشدد الإنسان بالله ويقف أمامه مجدداً عهده متشجعاً بالأمثلة الحية التى سبقته، فإنه يُقبِل على دعوته بغيرة ونشاط ويعود فيرى فيها كل راحته وسلامه وإكليله."

ويختتم نصيحته للكاهن وللراهب بقوله "ليس هذا معناه أن لا يتثقف الراهب بكلمة الإنجيل كل يوم وبكل عمق وإخلاص، ولا أن يمتنع الكاهن وخادم الإنجيل أن يتربى تحت أقدام الآباء وتعاليمهم وعفتهم وزهدهم، على الراهب أن يجعل من الكلمة نوراً للسيرة الرهبانية الزاهدة المتعففة، وعلى الكاهن أن يجعل من سيرة الآباء وزهدهم برهاناً لصدق الكلمة التى يخدمها ويبشر بها، مشجعاً له وللذين يجاهدون معه للشهادة وسط العالم ضد العالم."

(للمزيد يمكنك عزيزى القارئ الرجوع لكتاب "الخدمة" للأب متى المسكين.)

كنيستنا غنية ومستنيرة بخبرات الحياة فى المسيح والتى ترجمتها فى طقوسها وليتورجيتها، وزخم حيوات قديسيها، وتفكيك اشكاليات التعليم المعاصر يكون بطرحها على فكر الكنيسة فى عصور توهجها، عندما كانت تعيش المسيح بعيداً عن الرؤى الشخصية الضيقة.

ومازالنا على وعد بلقاء نستكمل فيه كلمتنا الأخيرة بشأن كنيسة اليوم.