د. ماجد عزت إسرائيل
لفهم السياق الديني والسياسي في زمن المسيح، لا بد من دراسة التركيبة الأيديولوجية والديموغرافية لمجتمع فلسطين ومدينة القدس تحت الحكم الروماني. إذ شهدت تلك الحقبة تفاعلات بين الموروث الديني والتغيرات السياسية التي فرضها الاحتلال الروماني، مما أدى إلى بروز تحولات اجتماعية ودينية عميقة.
فعن الهوية القومية والدينية في العهد الروماني يُذكر في سفر حزقيال: "لِذلِكَ تَنَبَّأْ وَقُلْ لَهُمْ: هكذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَفتَحُ قُبُورَكُمْ وأُصْعِدُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي، وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ." (حزقيال 37: 12). فيجسد هذا النص تطلع اليهود الدائم للعودة إلى أرضهم، وهو ما بقي حيًا في وجدانهم حتى بعد زوال مملكتي يهوذا وإسرائيل على يد الأشوريين ثم البابليين، قبل أن يرسخ الرومان سيطرتهم لاحقًا. في زمن يسوع، لم يكن هناك تقسيم قبلي واضح كما في الماضي، حيث اندثرت مملكة إسرائيل الشمالية منذ القرن الثامن قبل الميلاد، بينما انتهت مملكة يهوذا عام 586 ق.م. مع السبي البابلي. ومع ذلك، ظل هناك تمسك بالهوية القبلية، حيث التصقت أسماء الأسباط بالأقاليم التي كانوا يسكنونها سابقًا، كما جاء في إنجيل متى:"وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ:«أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْرُ الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَم” (متى 4:13-15).
وحقًا شهد المجتمع في فلسطين ومدينة القدس العديد من الصراعات الدينية والانقسامات الاجتماعية.فبعد أن عاد بعض المسبيين إلى فلسطين عقب إصدار الملك الفارسي كورش مرسومًا يسمح لهم بذلك، مما أدى إلى إعادة بناء الهيكل وإعادة تشكيل المجتمع اليهودي، لكن ظلت فلسطين مزيجًا من الجماعات اليهودية وغير اليهودية. فكان توزع السكان اليهود في فلسطين بين مجموعتين: الأولى تضم من بقوا في الأرض بعد السبي، والثانية أولئك العائدين من سبطي يهوذا وبنيامين. أما الأسباط العشرة الأخرى، فقد اندمجت إلى حد كبير مع الشعوب المجاورة. وإلى جانب ذلك، كان هناك انقسام حاد بين اليهود والسامريين، حيث اعتُبرت السامرة خارج نطاق اليهودية الصارمة، مما أدى إلى نزاعات استمرت طويلًا. يبرز ذلك في الحوار بين السيد المسيح والمرأة السامرية:"«كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ.” (يوحنا 4: 9).
وفي ذات السياق حدث التقسيم السياسي لفلسطين في زمن المسيح، حيث خضعت فلسطين للحكم الروماني، وتم تقسيمها إداريًا إلى عدة مناطق لكل منها حاكمها: اليهودية والسامرة: كانتا تحت الحكم المباشر للولاة الرومان الذين عيّنهم الإمبراطور، مثل بيلاطس البنطي. أما الجليل وبيرية، فقد كانتا تحت حكم هيرودس أنتيباس، الذي عُرف بقسوته وكان مسؤولًا عن إعدام يوحنا المعمدان. وقد وصفه يسوع بعبارة تعكس دهاءه ومكره."فَقَالَ لَهُمُ: «امْضُوا وَقُولُوا لِهذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ.” (لوقا 13: 32).
وأخيرًا، لقد شكلت التركيبة الأيديولوجية والمجتمعية لفلسطين في زمن المسيح مزيجًا معقدًا من الولاءات القبلية والانقسامات الطائفية، وسط سيطرة الاحتلال الروماني. وفي هذا السياق المتوتر، جاءت رسالة المسيح بالدعوة إلى المحبة والحق،متجاوزة الحواجز الدينية والاجتماعية، مما جعلها محط جدل بين من قبلوها بإيمان ومن رفضوها حفاظًا على سلطتهم.