كمال زاخر
الخميس 27 مارس 2025
[9] التعليم؛ التوثيق والصراع
عندما قادتنى قدماى لاقترب من العليقة المشتعلة، أو هكذا خلتها وفق الصورة الذهنية التى اختزنتها من سنى الطفولة والصبا، هالنى أن اجدها وقد صارت كنائس تحمل نفس اللافتة، وتصلى نفس الصلوات، وتمارس ذات الطقوس. وتنضوى ـ شكلاً ـ فى منظومة واحدة.
واحدة منها استغرقتها أمواج التنظير اللاهوتى فراحت تنهل من ينابيعه، بعضها عبر لغات وسيطة لا تخلو من اسقاطات اصحابها، وبعضها عبر يونانية الآباء، التى أسرتهم فى عصورها، فجاءت القراءة محملة بحلم مفارق للحياة المعيشة، يرفضون أن يحركوا التخم القديمة، فيما ذهب نفر ثالث إلى هضمها واجترارها وطرحها بلغة معاصرة، تُصالح العصر معها بعد أن تيقنت أن السعى الحقيقى هو ادراك لاهوت التجسد الذى نقلنا من الظلمة إلى النور، وفيه كانت الحياة والتى ينبغى أن نختبرها معاشة ونحياها. وعمودها الفقرى "المحبة"، وترجمتها تفعيل قيم العطاء والبذل فى اتضاع وانكار للذات. ومحلها المختار ليتورجية القداس والتسبحة.
واحدة منها استراحت إلى حصرها، وحصارها، فى الممارسات التعبدية، تنقلها كما هى وتحرص على ادائها فى تنميط يجور على روحها، ولم تلتفت إلى خبرات الكنيسة الأولى التى تنبهت لتوجه تهويدها، وتحميل كواهل مؤمنيها بفروض والتزامات، »لا تمس! ولا تذق! ولا تجس!«، فى غير انتباه أن ترتيبات الكنيسة ـ طقوسها وممارساتها ـ هى ترجمة حياتية لما تؤمن به، محمَّلة بعمق التعبير عن استيعاب حراك الحب الإلهى، الذى يعيش معنى الجسد الواحد والذى يجمعنا مع القديسين حتى أولئك الذين سبقونا للمجد، نجتمع كلنا حول شخص المسيح، ونشترك معاً فى وليمته السماوية التى توفرها لنا الكنيسة مع كل اجتماع افخارستى، وهى تنادينا، أيها الجلوس قفوا، والى الشرق انظروا، هوذا عمانوئيل الهنا كائناً معنا على المذبح ... وينتهى بنا المطاف والكاهن يعيد تأكيد ما قاله الرب يسوع المسيح "جسدى مأكل حق، ودمى مشرب حق، يعطى لمغفرة الخطايا وحياة ابدية لمن يتناول منه".
واحدة منها راحت تغازل الحياة الاجتماعية فاستغرقتها الأنشطة والرحلات، بغطاء يبدو روحياً، تشغل شبابها بالمسابقات التنافسية، واقتبست مسمياتها من العالم الذى تسلل اليها، بعد أن جف حسها التقوى الآبائى، لتستهلك زمانها فى مهرجانات وانشطة وجوائز، وتنام قريرة العين، فقد نجحت فى جذب مئات وربما آلاف الشباب، إلى فعالياتها، وعندما ينفض سامرها، يعودون إلى حياتهم وصراعاتهم يحاربون طواحين الخطايا بسيوف خشبية، يعيشون ضجيجاً ولا يجنون طحيناً.
بين الممارسات التعبدية الشكلية، وبين الأنشطة الإجتماعية، لم يلتفت اصحابها إلى مشاكل رعاياها الجسيمة، بيوت تتفكك، وأسر تنهار، يسرى فيها الطلاق كالنار فى الهشيم، ويغازل الإلحاد بشكل متنام أجيال لم يشر لها أحد عن الحياة فى المسيح، بحسب موروثها المتخم، بخبرات الآباء، اللافت أنها ظواهر تتفشى بين كثيرين من المحسوبين على خدام الكنيسة وشمامتها، أنا هنا لا أطلق أحكاماً جزافية، لكننى انقل ما لمسته بيدى ورأته عيناى فى دوائر خدام اعرفهم بالاسم، كانوا يوماً من انشط الخدام، ولا أزيد حتى لا اضع مزيداً من الملح على جروحنا التى لا تريد أن تندمل، ويصرخ فى وجهى من يتهموننى بالاساءة اليهم وإلى منظوماتهم الهشة.
تختفى القدوة وتختفى التلمذة، أو يكادا، وتختلط الحقائق بأشباه الحقائق، وعلى الأبواب تربض الفخاخ تتصيد المتساقطون من شبكة تهرأت، وتئن كنائسنا ببكاء مكتوم، يمنعها العار الإجتماعى من البوح بأنينها. وامعاناً فى ثقافة الإنكار تعوضه بالإيغال فى ابهار الشكل، وصخب الاحتفالات، وشخصنتها، خاصة عند المدبرين، والاستغراق فى تعميق الفكر الغيبى، وحكايات الكرامات والمعجزات التى تفعل مفعول المخدر فى جسد تمزقه آلام الأمراض.
اصدقكم القول أننى تراجعت لأخرج من هذه الدائرة وصوت يصرخ داخلى »اهرب لحياتك. لا تنظر الى ورائك، ولا تقف في كل الدائرة. اهرب الى الجبل لئلا تهلك «، كان السؤال كيف وصلنا الى هذا الحال ولم تسعفنى مداركى باجابة، فكل اجاباتى تدين رموزاً تم تحصينها وتقديسها فى العقل الجمعى ، وفى تقديرى أن حسن النية توافرت لكثيرين منهم. لكن الطريق إلى المصاعب مفروش بالنوايا الحسنة.
مازال سعىِّ البحث عن مخارج يؤرقنى، هل يمكن أن نصالح التنظير اللاهوتى والخبرات الآبائية على الحياة المعاصرة، لنخرج بكنيسة اليوم من كل هذه الدوامات، لتسترد عافيتها ونضارتها، وتعود صوت صارخ فى برية العالم تعيش المسيح وتعلنه وتجمع المتفرقين إلى واحد؟.
لن نبدأ من فراغ ولن نعيد تكوين منظومة ايمانية لاهوتية من عندياتنا، فكنيستنا واحدة من أعرق وأقدم الكنائس، وتملك مقومات البقاء والحياة عبر تاريخ طويل من تقنين الإيمان وتوثيقه ولها ثقلها فى نحت صياغاته التى أخذت بها واعتمدتها كل كنائس المسكونة، استناداً إلى ما علّم به المسيح وكرز به تلاميذه الأطهار وسجلوه فى الأناجيل وفى الرسائل التى ضمتها دفتى كتاب العهد الجديد، وشرحه الآباء الرسوليين، وحملته مخطوطات مدرسة الأسكندرية، ومن بعدها أقبية اديرة مصر باتساع جغرافيتها.
مدخلنا إذن "التعليم"، وهو ما نبه القديس بولس عليه فى وصاياه لتلاميذه، مؤكداً على حضور التلمذة بجوار التعليم، ففى حديثه لتيموثاوس احد ابرز تلاميذه يقول "واما انت فقد تبعت تعليمي، وسيرتي، وقصدي، وايماني، واناتي، ومحبتي، وصبري، واضطهاداتي، والامي"، ويستطرد مؤكداً ومنبهاً "فاثبت على ما تعلمت وايقنت، عارفا ممن تعلمت. وانك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة، القادرة ان تحكمك للخلاص، بالايمان الذي في المسيح يسوع".
ويضعنا القديس بولس أمام منهج الكنيسة، فى التنشئة والتعليم الذى يبدأ من البيت، ويتأكد بدور الكنيسة عبر ترتيباتها، ويستمر بالعمل الشخصى، "اتذكر الايمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن اولا في جدتك لوئيس وامك افنيكي، ولكني موقن انه فيك ايضا فلهذا السبب اذكرك ان تضرم ايضا موهبة الله التي فيك بوضع يدي، لان الله لم يعطنا روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح."، " تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني، في الايمان والمحبة التي في المسيح يسوع. احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا".، "وما سمعته مني بشهود كثيرين، اودعه اناسا امناء، يكونون اكفاء ان يعلموا اخرين ايضا". هو منهج متكامل : تلمذة، أمانة، نقل الخبرات الإيمانية بتتابع الأجيال.
وقد سبق الرب يسوع المسيح له المجد أن أشار لنا على المدخل لبناء ايماننا والهدف منه "فتشوا الكتب لانكم تظنون ان لكم فيها حياة ابدية. وهي التي تشهد لي."، فلا حياة ابدية إلا فى المسيح يسوع، ولا تعليم خارج الشهاده لشخصه وعمله الخلاصى لأجلنا، وقد استوعبت الكنيسة هذا وترجمته فى ليتورجيتها بايجازوتدقيق لتشرح فى كلمات معدودات حكاية الخلق والسقوط والفداء، وقبل كل هذا من هو المسيح فى ايمانها الذى هو ايماننا، فيما يعرف بصلاة الصلح:
"أيها الكائن الذي كان الدائم إلى الأبد، الذاتي والمساوي والجليس والخالق الشريك مع الآب، الذي من أجل الصلاح وحده مما لم يكن كونت الإنسان وجعلته في فردوس النعيم، وعندما سقط بغواية العدو ومخالفة وصيتك المقدسة، وأردت ان تجدده وترده إلى رتبته الأولي، لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباء ولا نبي ائتمنته على خلاصنا بل أنت بغير استحالة تجسدت وتأنست وشابهتنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها وصرت لنا وسيطًا لدى الآب والحاجز المتوسط نقضته والعداوة القديمة هدمتها وأصلحت الأرضيين مع السمائيين وجعلت الاثنين واحدًا وأكملت التدبير بالجسد وعند صعودك إلى السموات جسديًا إذ ملأت الكل بلاهوتك قلت لتلاميذك ورسلك القديسين سلامي أعطيكم سلامي أنا أترك لكم هذا أيضًا الآن أنعم به علينا يا سيدنا، وطهرنا من كل دنس ومن كل غش ومن كل رياء ومن كل شر ومن كل مكيدة ومن تذكار الشر الملبس الموت".
دعونى أعود لاقترابى من "كنيسة اليوم"، والتى تعانى من توجهات البحث عن بدائل تزيح الرب يسوع المسيح من دائرة اهتماماتها، كحجر الزاوية الذى يقوم عليه البناء كله، لينتهى بنا الأمر إلى الصور البديلة التى اشرت اليها هنا فى سطورى الأولى، وتنتج لنا كل أوجاعنا التى تؤلمنا وتؤرقنا، ونعيش تجربة مريرة فيها "الاباء اكلوا الحصرم واسنان الابناء ضرست".
الكنيسة اليوم وفى مقدمتها مجمعها المقدس والبابا، والمعاهد اللاهوتية الكنسية المؤسسية (الإكليريكية ومعهد الدراسات القبطية)، والمراكز البحثة القبطية الارثوذكسية، والأديرة ذات التاريخ البحثى الآبائى، وكتيبة المترجمين عن يونانية الآباء، ورفقائهم من المترجمين عن لغات وسيطة، كل هؤلاء متضامنين مطالبون بوضع استراتيجية تعكف على دراسة وتوثيق القوانين الكنسية التى تتعلق بمحاور الايمان، عقيدة وطقس، وترتيب، بحيث يصبح لديها نصوص مكتوبة وثائقية يمكن العودة اليها عندما يحدث خلاف بين من يتناولوها، وتخرجنا من دوامة الآراء الانطباعية، والتى فى كثيرها نتاج مجهود فردى يخلط بين الرأى والاستيعاب الشخصى وبين ما تسلمته الكنيسة فى تقليدها المحقق.
وهو عمل شاق ومجهد ويحتاج لسنوات لكن المهم أن تبدأ الكنيسة فى تدشينه بشكل جاد، ووفق القواعد العلمية المستقرة والتى سبقتنا إليها كنائس شقيقة، ولا يكفى فيها لجان الايمان والعقيدة والطقوس والتاريخ فى مجمع الكنيسة وحدها، والظرف اليوم اكثر ملائمة للبدء فى هذا العمل فى ضوء توافر المراجع سواء فى مخطوطات الأديرة، أو الأبحاث اللاهوتية التى قام بها ابناء الكنيسة الدارسين والمؤهلين لذلك، فضلاً عن أمهات الكتب والوثائق والمراجع المتوفرة بالمكتبات العالمية ذات الصلة، والمتاح الحصول على نسخ منها، وتطور وتقدم علوم اللغات القديمة وعلوم الترجمة، ويمكن الاستفادة بالخبرات الكنسية المسكونية فى هذه المحاور.
ننتظر مبادرة بتدشين مسار التوثيق الممنهج من الأب البطريرك البابا تواضروس الثانى والذى صرح كثيراً بأنه يتوق لمثل هذا العمل، بغير أن يلتفت للأصوات المعوقة والمتربصة، لنضع نقطة فى نهاية سطر الصراعات التى ارهقت الكنيسة، وسوف يضعه التاريخ بهذا فى مصاف البطاركة الذين خاضوا معارك التنوير، بثقة وايمان وعزيمة لا تلين، فى ظروف معاكسة سواء فى تاريخنا المعاصر أو فى تاريخنا الوسيط والقديم.
ومازال لطرحنا بقية فإلى لقاء.