القمص الدكتور/ بطرس البراموسي
دكتوراه في الفلسفة تخصص تاريخ الأقباط- جامعة الإسكندرية
ماجستير في اللاهوت العقيدي- معهد الدراسات القبطية
ماجستير في التراث المسيحي المدون باللغة العربية - جامعة الإسكندرية
عضو الاتحاد العام للمؤرخين العرب
مقدمة
في صميم تعاليم المسيح، نجد دعوة عميقة إلى الثقة بالعناية الإلهية والتخلي عن القلق المفرط بشأن المستقبل. تجسد هذه الدعوة في العبارة الشهيرة "لا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره" (متى 6:34). هذه الكلمات، التي وردت في العظة على الجبل، لا تشجع على الإهمال أو عدم التخطيط، بل تدعو المؤمن إلى التركيز على الحاضر والثقة بأن الله سيوفر له ما يحتاجه في المستقبل.في هذا المقال، سنستكشف هذا التعليم من منظور مسيحي أرثوذكسي، ونوضح كيف يمكن تطبيقه في الحياة اليومية.
سياق العظة على الجبل
لفهم معنى "لا تهتموا للغد" بشكل كامل، يجب أن نضعها في سياق العظة على الجبل. في هذا الجزء من إنجيل القديس متى، يقدم السيد المسيح مجموعة من التعاليم التي تتحدى المفاهيم التقليدية للدين والروحانية. يدعو ربنا يسوع أتباعه إلى حياة تتجاوز الطقوس الخارجية وتركز على القلب والنية؟ وهو ما يفيد الدخول للعمق للتلذذ بالحياة الروحية.
في هذا السياق، يتحدث الرب يسوع عن القلق بشأن الاحتياجات المادية مثل الطعام والملبس. يشير إلى أن الطيور لا تزرع ولا تحصد، ومع ذلك فإن الله يعتني بها. ثم يسأل: "ألستم أنتم أفضل منها كثيرًا؟". من خلال هذا السؤال، يدعونا إلى إدراك قيمة الإنسان في نظر الله، وإلى الثقة بأن الله سيوفر لهم ما يحتاجونه.
معنى "لا تهتموا للغد"
"لا تهتموا للغد" لا تعني أن نعيش بلا تخطيط أو مسؤولية. بدلاً من ذلك، تعني أن نتجنب القلق المفرط الذي يشل قدرتنا على عيش الحاضر. القلق هو شكل من أشكال عدم الثقة بالله، وهو يعكس الاعتقاد بأننا وحدنا المسؤولون عن تدبير حياتنا.
في المقابل، يدعونا إلهنا المعتني بنا إلى الثقة بأن الله يعرف احتياجاتنا وسيوفرها لنا في الوقت المناسب. هذا لا يعني أننا يجب أن نجلس وننتظر حدوث المعجزات، بل يعني أننا يجب أن نعمل بجد ونبذل قصارى جهدنا، مع التسليم بأن النتيجة النهائية هي في يد الله.
يكفي اليوم شره
الجزء الثاني من هذه العبارة، "يكفي اليوم شره"، يحمل أيضًا أهمية كبيرة. يشير فيها إلى أن كل يوم يحمل تحدياته وصعوباته الخاصة. بدلاً من أن نثقل كاهلنا بالقلق بشأن مشاكل الغد المحتملة، يجب أن نركز على التعامل مع تحديات اليوم الحالي.
هذا لا يعني أن نتجاهل المشاكل أو نتجنب التخطيط للمستقبل. بل يعني أن نتعامل مع كل يوم على حدة، وأن نثق بأن الله سيعطينا القوة والنعمة لمواجهة أي تحديات قد تواجهنا.
منظور أرثوذكسي
من منظور أرثوذكسي، يتجذر تعليم "لا تهتموا للغد" في فهمنا للعناية الإلهية. فنحن نؤمن بأن الله حاضر في كل لحظة من حياتنا، وأنه يسهر علينا بحبه ورعايته. هذه العناية الإلهية لا تعني أننا سنتجنب الألم أو المعاناة، بل تعني أن الله سيكون معنا في وسط هذه التجارب، وأنه سيستخدمها لخيرنا الروحي.
بالإضافة إلى ذلك، يؤكد التقليد الأرثوذكسي على أهمية التوبة والتواضع. عندما ندرك أننا لسنا مسؤولين عن كل شيء، وأننا نعتمد على الله في كل شيء، نصبح أكثر قدرة على التخلي عن القلق والثقة بالعناية الإلهية.
تطبيق عملي
كيف يمكننا تطبيق تعليم "لا تهتموا للغد" في حياتنا اليومية؟ فيما يلي بعض النصائح العملية:
1. ابدأ يومك بالصلاة:اطلب من الله أن يهديك ويقويك، وأن يساعدك على الثقة به في كل الظروف.
2. ركز على الحاضر:حاول أن تكون حاضرًا في كل ما تفعله، سواء كان ذلك في العمل أو في المنزل أو في العلاقة مع الآخرين. تجنب التفكير في الماضي أو القلق بشأن المستقبل.
3. مارس الامتنان:خصص وقتًا كل يوم للتفكير في الأشياء التي تشعر بالامتنان لها. هذا يساعدك على تقدير البركات التي في حياتك، ويقلل من القلق بشأن ما ينقصك.
4. تجنب الكمالية:لا تحاول أن تكون مثاليًا في كل شيء تفعله. تقبل أنك سترتكب أخطاء، وتعلم منها لفائدتك اليومية. تذكر أن الله يحبك ويقبلك كما أنت، بدون تجمل.
5. شارك في الأسرار المقدسة:احرص على الاعتراف والتناول بانتظام. هذه الأسرار تمنحك النعمة والقوة الروحية التي تحتاجها لمواجهة تحديات الحياة.
6. اطلب المشورة:لا تتردد في طلب المشورة من مرشد روحي أو صديق تثق به. يمكنهم مساعدتك على رؤية الأمور من منظور مختلف، وتقديم الدعم الذي تحتاجه.
7. ثق بالعناية الإلهية:تذكر أن الله يحبك ويهتم بك، وأنه سيوفر لك ما تحتاجه في الوقت المناسب. ثق به، وسلم له حياتك.
الخلاصة
إن تعليم "لا تهتموا للغد" هو دعوة عميقة إلى الثقة بالعناية الإلهية والتخلي عن القلق المفرط بشأن المستقبل. من خلال التركيز على الحاضر، والعمل بجد، والتسليم بأن النتيجة النهائية هي في يد الله، يمكننا أن نعيش حياة أكثر سلامًا وفرحًا.
القمص الدكتور/ بطرس البراموسي
دكتوراه في الفلسفة تخصص تاريخ الأقباط- جامعة الإسكندرية
ماجستير في اللاهوت العقيدي- معهد الدراسات القبطية
ماجستير في التراث المسيحي المدون باللغة العربية - جامعة الإسكندرية
عضو الاتحاد العام للمؤرخين العرب