كمال زاخر
الأثنين 24 مارس 2025
[8] أنسنة الإكليروس
توقفت ملياً عند سؤال يبدو بديهياً، ما الذى تعمل من أجله الكنيسة؟، أى كنيسة، فالبديهى أنها تسعى لتعيش ايمانها وتترجمه فى صلواتها، وترتيبات عبادتها، والتى هى عند الكنائس التقليدية "الطقوس"، التى تأتى تعبيراً عن معتقداتها، وتخصص نفر من المتقدمين فيها لنقل مفاهيم الإيمان، والعقائد والطقوس، بعد إعدادهم ليؤهلوا لمهامهم، وتعمق روابط المحبة بين رعيتها، تتلقى عطايا القادرين لتوزعها على المعوزين، على غرار خدمة الموائد التى عرفتها الكنيسة الأولى، وتمد ايادى السلام إلى مجتمعها الذى تعيش فيه، فى ترجمة لوصية المحبة، وتقدم له ما يمكنها من دعم انسانى، على غرار "السامرى الصالح" ومثالها الرب يسوع الذى كان يجول يصنع خيراً للكل، على ارضية انسانية بحتة.
استوجب هذا أن ترتب الكنيسة منظومة عملها بما يضمن تحقيق كل هذا بحسب الأطر التى علم بها الرب يسوع، وعاشها تلاميذه، وأشار الى طيف منها القديس بولس فى رسائله، فظهرت تراتبية الخدمة، وتحددت صلاحيات ومسئوليات كل رتبة فى تكاملية تخدم هدف عمل الكنيسة، ولم يكن المقصود من التراتبية تقرير أفضلية للرتب المتقدمة عن التالية لها، فالمقصود منها تنظيم العمل وفق قواعد منظِمة تضمن اداء افضل واستمرارية تدوم، ورسالة تصل.
حين استقرت الكنيسة وتصالح معها الإمبراطور الرومانى، برؤية سياسية، ومد حمايته لربوعها، لم تلتفت الكنيسة لتسرب ادواته داخل تنظيماتها، وقبلت هداياه بعد مجمعها المسكونى الأول الذى تم بدعوة منه، والذى صار أحد عناصر قانونية انعقاد لمجامع المسكونية التالية، وحين سألت احد الآباء لماذا لا تسعى الكنيسة مع الكنائس الأخرى على مستوى العالم، لترتيب عقد مجمع مسكونى يهدف إلى رأب الصوع بينها، توطئة لتعود كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية، فنظر إلى مشفقاً على جهلى وقال لأنه لم يعد هناك امبراطور يدعو له!!.
كانت حزمة هداياه لكل اسقف مشارك تضم كرسياً مستنسخ من كرسيه، وصولجاناً يحاكى صولجانه، وعباءة تماثل عباءته الإمبراطورية، وهم بدورهم أورثوها لخلافائهم، ويحكى أحد الباحثين فى كتاب صدر مؤاخراً، بعنوان "سر ولغز الأنبا بولا" وهو يتابع لقاء الأنبا انطونيوس أبو الرهبان مع الأنبا بولا أول السواح، أن الأخير طلب من أبى الرهبان أن يذهب للقاء البابا اثناسيوس الرسولى ويبلغه أنه يريد منه عباءة الإمبراطور التى ورثها عن سلفه، فذهب وأتى بها إليه، لكنه وجده قد مات، فقام بخلع رداءه الليفى الخشن الذى كان يرتديه، وكفّن جسده بعباءاة الامبراطور، وعاد بالثوب الليفى ليعطيه للبابا البطريرك، الذى ادرك الرسالة، أن الكنيسة لا تدار بعباءة الإمبراطور، وإنما بالثوب الخشن حيث النسك والاتضاع، فارتداه تحت ملابسه ولم يخلعه حتى رحيله، هكذا يقول الباحث، ويعزز رصده بقائمة من المراجع التى تناولت الواقعة.
ذهبت العباءة إلى التراب، لكن بقى الكرسى والصولجان والملابس الإمبراطورية، وذهب اصحابها إلى التفتيش فى متون وحواشى الكتب يستخرجون منها رموزاً واشارات تقننها وتُعَمّدها وتضفى عليها هالات من التقديس. حدث هذا فى كل الكنائس التقليدية، وكان لنا نصيباُ منها، تعمق فى الوجدان القبطى ربما بسبب الحنين الجينى للجذور المصرية الفرعونية، والتى سبقت فى عظمتها الإمبراطورية الرومانية، وحين صرنا أقلية عددية بعد التحولات الدرامية التى كادت أن تعصف بوجودنا، تمسكنا أكثر بكل مظاهر العظمة، كداعم نفسى لشعب منكسر، حتى لو تعارضت مع الحس السكندرى التقوى النسكى.
قَصدتُ أن افسح سطورى قبلاً لرؤية دير من أعرق اديرتنا فى الرهبنة، والتى أشارت بجلاء إلى التراجع الذى اصابها والمخاطر التى تتهددها، ولعل الخطر الأكبر ما أصاب قدر وافر من قاطنيها من أمراض ومتاعب نفسية وروحية، ووفقا لنظرية الأوانى المستطرقة فهم جاءوا من مناخ التراجع الفكرى والثقافى الذى شمل المجتمع خارج الأديرة، وبعضهم دفعه عدم التحقق خارج اسوارها عساه يجده داخلها، وبعضهم قادته طموحاته ليختار اقامة مؤقته بالدير كمحطة ينتقل منها الى مواقع الخدمة المتقدمة خارجها، وبعضهم ذهب ليدفن جروحه وصدماته الإنسانية فى رمال صحرائها، ولكن هذا لا يعنى انكار أن بينهم من سعى ويسعى لخلاص نفسه وابديته، محتفظا فى وجدانه باضاءات كواكب البرية، وترك الكل من اجل الالتصاق بالواحد.
الحقيقة أن كل هذه الأطياف كانت متواجدة فى عصور الرهبنة المختلفة، لكن وجود شيوخ البرية وقتها فى الأديرة كان يقوّم ويعالج كل هذه التوجهات عبر نسق التلمذة والخضوع لتوجيهاتهم وارشاداتهم، فتنتقل خبرة الحياة الديرية السوية اليهم، فتصحح انحرافات الرؤية وتقود خطوات المعوج الى سواء السبيل، وتجبر منكسرى النفوس وتقيم الساقطين، وادبيات الرهبنة تعج بحكايات التوبة والتداوى الروحى والنفسى لكل هؤلاء.
الذى حدث أن تم بطرق مختلفة اقصاء الشيوخ بعد أن صار لكل دير اسقفاً، يلزم رهبانه بألا يكون لهم آباء اعتراف من الشيوخ، فهو اب اعتراف كل رهبان الدير، فتوارى الشيوخ داخل قلاليهم، يقضون ما بقى من ايامهم مع خبراتهم فى الحياة فى المسيح، يجترونها بعيدا عن الضجيج والصخب وصراعات المتكأ الأول، أما شباب الرهبان فلهم الله.
حرص الشيوخ ومعهم جل تلك الجماعة التى استنارت اذهانها على البقاء بعيداً يعتذرون عن دعوات الخدمة خارج اديرتهم بل ويرفض كثير منهم نوال أية رتبة كهنوتية حتى الشماسية، وبقوا على حالهم رهبانا وفقط، ويحرصون أن يلتقوا بغير صخب وبعيداً عن الأعين مع بعضهم البعض يتبادلون خبراتهم ويستزيدوا كيف انار الرب عيونهم وكم صنع بهم الرب ورحمهم.
ولما كان هذا حال الرهبنة، والكنيسة فى عقودها الأخيرة، والتى تقترب من القرن، تختار اساقفتها حصراً من الرهبان، فما الذى نتوقعه منهم، وأنا هنا لا أشير إلى أحد بعينه، بل اشهد أن بينهم اساقفة بحسب قلب الله دخلوا الدير وغادروه الى رتبهم، وهم محتفظون بقاماتهم الروحية وسلامهم النفسى، وقلوبهم المختبرة للعشرة مع المسيح وفيه، بما تأسسوا عليه فى بيوتهم وكنائسهم التى شهدت تكوينهم الأساسى، وبناءهم الروحى والنفسى السوى.
طيف منهم خرجوا من اديرتهم ومعهم كل متاعبهم لم يستطيعوا التخلص من سيطرة الفكر الرهبانى الدخيل وهو فكر حاد احادى لم يختبر الحياة الاجتماعية، وانعكس هذا بالضرورة عليهم كرهبان انطلقوا من محبسهم ليصيروا رؤساء ايبارشيات مطلقو الصلاحيات، وهو ما نراه فى ملبسهم ومقراتهم ومساعدينهم وطاسوناتهم وفى تعاملهم مع كهنتهم.
وكان الاساقفة من الأجيال القديمة يعالجون هذه الانحرافات (المحاربات) النفسية بالحرص على تعميق العلاقة الروحية مع الله نسكا وتعبدا وملاحظة النفس، وقد شهد جيلنا نماذج عديدة من هؤلاء الذين اثروا الكنيسة برؤاهم الرزينة وحكمتهم وتدبيرهم الأبوى لايبارشياتهم.
الأزمة أن لقمة عيش واستقرار وسلام ومستقبل الكاهن، فى تلك الإيبارشيات، فى يد مثل هؤلاء الأساقفة، يعِزّون ويذِلون، يمنحون ويمنعون، يستندون إلى ما ما قاله ق. إغناطيوس الأنطاكي أن (الأسقف هو المسيح) وما ورد فى كتاب الكهنوت للبابا شنودة : (قيل عن السيد المسيح: "راعى نفوسكم وأسقفها" (1بط 2: 25). وقيل في الكهنوت: "يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل لله" (تى 1: 7). فالمسيح هو الأسقف، لأنه هو الراعي الحقيقي. (أما الأسقف فهو بهذا الصفة)، لأنه وكيل للمسيح الذي هو أسقف نفوسنا.)
فهموهما على غير مقصدهما ليبنوا عليه هرماً من التسلط وهو أمر لم يكن موجوداً حين كانوا اتقياء قبل ان تداهمنا طبقة الرهبان الجدد الذين لم يختبروا التلمذة ولم يتشربوا قيم المحبة الاتضاع انكار الذات الفقر الاختيارى النسك رغم انها نذورهم الرهبانية الأساسية.
كنيسة اليوم بحاجة جادة لمراجعة التراث فى ضوء حياة الكنيسة الأولى لتتخلص من الأثقال الى تعوّق تواصلها مع الناس، وحتى تتمكن من أن تصل بنور المسيح الذى فيها لهم، فهل تملك أن تتخفف من مظاهر السلطة التى تسللك اليها، واستراحت لها؟، كما حاول فى ذلك القديس البابا كيرلس، وكما يحاول البابا تواضروس بخطوات متوجسة، هل يمكن أن تحل "الشملة الرهبانية محل التاج"؟، ويستبدل كرسى الأسقفية بكرسى بسيط كسائر الرعية، وهل يمكن أن تحل "التونية" محل العباءة الملوكية، أو على الأقل تتخلص العياءة من الزخارف والألوان الزاعقة؟. الكرامة والمجد لا يأتيان بإبهار الزى الكهنوتى بل بالأبوة والاتضاع والبذل.
هل تتدبر الكنيسة توجيه القديس بطرس الرسول فى رسالته الأولى (أَطْلُبُ إِلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ، أَنَا الشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ، وَالشَّاهِدَ لآلاَمِ الْمَسِيحِ، وَشَرِيكَ الْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ، ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّارًا، لاَ عَنِ اضْطِرَارٍ بَلْ بِالاخْتِيَارِ، وَلاَ لِرِبْحٍ قَبِيحٍ بَلْ بِنَشَاطٍ، وَلاَ كَمَنْ يَسُودُ عَلَى الأَنْصِبَةِ، بَلْ صَائِرِينَ أَمْثِلَةً لِلرَّعِيَّةِ. وَمَتَى ظَهَرَ رَئِيسُ الرُّعَاةِ تَنَالُونَ إِكْلِيلَ الْمَجْدِ الَّذِي لاَ يَبْلَى.).
دعوتى أن ندرك أن آية المسيحية هى التجسد، والذى فيه أخلى الرب يسوع نفسه آخذاً صورة عبد صائراً فى شبة الناس؛ فماذا عنا وقد توجب علينا ان نقتدى به، ونحن بعد بشر تحت الضعف، ألم نقرأ هذا عند القديس بولس الرسول فى رسالته إلى فيلبى [فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.].
انسنة الإكليروس، بحسب فكر المسيح، مدخلنا لتسترد كنيسة اليوم قوتها وقدرتها على اداء رسالتها ودعوتها. لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود.
ومازلنا نبحر فى حال كنيسة اليوم ولنا فيها كلمة أخيرة.