د. سـامح فـــوزى
ناقشت فى مقال سابق بعنوان «توجهات مختلفة فى التنمية» (الأهرام 8 مارس 2025) التداعيات التى ترتبت على قرارات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تقليص المساعدات التنموية التى تمنحها بلاده، التى تعد أكبر المانحين دوليًا، إذ قدمت واشنطن مساعدات عام 2023 بنحو 64.7مليار دولار على مستوى العالم، و 14.9 مليار دولار لإفريقيا. وجد توجه ترامب الجديد صداه فى دول أوروبا، التى باتت هى الأخرى تحد من المساعدات الخارجية لأسباب متباينة، منها أزماتها الاقتصادية، وتصاعد تأثير التيارات اليمينية، وارتفاع تكلفة الدفاع.

فى هذه الأجواء نطرح سؤالا: ماذا يمكن أن تفعل الدول النامية إزاء هذا الواقع الجديد الذى يتشكل على نحو متسارع؟

تعانى الدول النامية أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، تختلف حدتها من دولة لأخرى، مما يجعل من الضرورى بالنسبة لكل منها التفكيرفى سبل الخروج من عثراتها. هناك الكثير الذى يٌقال بشأن التعاون الإقليمى، والتكتلات الاقتصادية، وتنوع الشراكات الدولية، لاسيما مع الصين، التى تتبنى نهجًا تنمويًا مٌختلفًا، ولها مبادرات مهمة فى إفريقيا. ورغم أهمية هذا التوجه، إلا أن الأزمة كامنة فى قلب الدول النامية، وتتصل ببنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يستدعى أن يكون لديها تصورها التنموى، وخططها المستقبلية، وتتحمل تكلفة تحقيقها. وينبغى أن نضع فى الاعتبار أنه لو حدث تحول فى التوجهات الامريكية خاصة، والغربية عامة، تجاه المساعدات التنموية فلن يكون الحال مثلما كان عليه، ولا أظن أن هناك خيارًا أمام الدول النامية، سوى نهج التنمية الذاتية، الذى تعتمد فيه على مقدراتها، مع الإفادة من الفرص المتاحة خارجيا.

إذا عدنا إلى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، عقب حصول كثير من الدول النامية على الاستقلال، كان هناك تصور وردى لدى النخب السياسية الجديدة آنذاك أن فى الإمكان تحقيق التقدم، إذا رحل الاستعمار الذى نهب ثروات الشعوب. رحل الاستعمار، ولكن لم ترحل معه مشكلات التنمية، التى تفاقمت، وتكاثرت. سعى العلماء إلى تفسير ظاهرة «غياب التنمية»، ومن ضمن التفسيرات التى راجت أن الإفادة من موارد الدول لا تأتى تلقائيا، بل هناك عوامل أساسية تعيقها منها ضعف التنمية البشرية، وغياب السياسات العامة الكفء، ووهن مؤسسات صناعة القرار، وغياب الديمقراطية، والانخراط فى حروب أهلية وصراعات خارجية. أعقب ذلك موجات من الفكر التنموى تتناول التنمية الاقتصادية، والتنمية البشرية، والتنمية السياسية، والتنمية الاجتماعية والثقافية، وهى دورة تنموية لازمت الارتقاء بمفهوم المواطنة، من مواطنة قانونية، إلى سياسية، إلى اجتماعية وثقافية. ورغم ما سبق لم تغير كثير من الدول النامية توجهاتها، بل لا تزال مٌصدرة للمواد الخام بأسعار منخفضة، ومستوردة للسلع تامة الصنع بأسعار مرتفعة. ليس هذا فحسب، بل إذا نظرنا إلى مسيرة كثير من تلك الدول على مدار عقود سنجد مظاهر متباينة، وصارخة، من إهدار الموارد، والحروب الأهلية، والتبعية المقيتة للخارج، وغياب الديمقراطية، وعدم القدرة على بناء مؤسسات الدولة على أسس حديثة.

يتعين الآن على الدول النامية المضى على نهج التنمية متعدد الأبعاد، عبر آليات مختلفة، تأخذ فى اعتبارها التنمية الاقتصادية من خلال تعظيم الفرص الاقتصادية عبر شراكة حقيقية بين الحكومة والقطاع الخاص، وتهيئة المناخ للاستثمار من خلال الالتزام بحكم القانون، والإجراءات البيروقراطية النزيهة. يرافق ذلك الاستثمار فى التنمية البشرية من خلال التعليم والصحة والتدريب، بحيث يصبح «العنصر البشري» أحد الموارد الأساسية التى تستطيع بها الدولة المنافسة مع العالم الخارجي. كل ذلك فى إطار مؤسسات سياسية قادرة على اتخاذ القرار، وديمقراطية فى إدارة الشأن العام، واحترام التنوع والاختلاف، وتأكيد الالتزام بالقانون والمساءلة والشفافية، ومواجهة الفساد وسوء إدارة الموارد، وتطوير المؤسسات العامة.

هذه المسارات التنموية أساسية، لا يجوز المضى فى أحدها وترك الآخر، أو تصور أن التنمية هى تصد لأعراض مرض دون مواجهة جذوره الأساسية، بل هى فى المقام الأول تتناول تغيير البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتخلص من أساليب التفكير التى تعيق التطور. بالمناسبة لا أود أن يظن القارئ أن هذه المقاربة هى تكرار لمقولات نظرية «التحديث» الغربية، التى راجت منذ خمسينيات القرن العشرين، وتشير فى جوهرها إلى أن أسباب التخلف أو تراجع التنمية تقبع داخل الدول النامية، ولا بديل أمامها سوى اتباع النموذج الغربى، بل إن المقصود بالحديث السابق هو النقيض تماما، ويرمى إلى اعادة اكتشاف الدول النامية لمواردها، وتطوير مؤسساتها، والتعرف على مواطن الإبداع داخلها التى أعاقها فى أحيان كثيرة التفكير فى أجندات التنمية المستوردة.
نقلا عن الاهرام