الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
إنجيل يوحنا ١: ١–١٨
«في البدءِ كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله. كان في البدءِ لدى الله.»
المسيح كلمة الله لأنه عبّر عنه بوضوحٍ وبغير غشّ. في شخصه استطعنا أن نعرف الله. ليس في شخص الكلمة فحسب، بل في أعماله أيضًا. الكلمة إذًا ليست حروفًا، بل شخص حيّ يتجلى في التاريخ والواقع. كلمة صادقة، تعني ما تقول، تقول ما تفعل، وتفعل ما تقول. الكلمة صارَ جسدًا، صار فلسطينيًّا، آراميًّا، يهوديًّا في بلدٍ محتلّ. الكلمة تجسّدَ في محيط احتلالٍ وفقرٍ وعنفٍ وانهيار اقتصادي وثقافي، في ظلّ تبعية إمبريالية تقمع أصوات الشعوب وتستعبد قواها الروحية والاجتماعية.
لم يتحدّث المسيح اللغة اللاتينية، كما أنه لم يقل: "اللغة الآرامية ليست لغتي"؛ بل إن لغتي هي العبري]ة. فالآرامية، مع كونها لغة الألم والظلم عند بعض الشعوب، تحتضن بين حروفها نبض المقاومة وأمل الحرية، لغة الطغاة الذين سبوا شعبنا. استطاع المسيح إذًا، كونه هو الكلمة، أن يتحدّث ويوصل الله لشعب عصره بلغته، وبلغة شعبه السائدة، محولًا لغة الانفصال إلى جسر للتواصل والتحرر.
لم يكن في المسيح اغترابٌ: لا لغويًّا، ولا سياسيًّا، ولا ثقافيًّا، ولا حتّى دينيًّا تجاه اليهود؛ بل كان جسرًا يربط بين تجاربهم وآلامهم وأحلامهم، مؤكدًا أن الله لا يُبعد أحدًا رغم اختلافاته. بتجسّد المسيح، الكلمة، لبسَ إنسانَ عصره، بثقافته ولغته، بوطنه ومشاكله السياسية والاقتصادية والدينية، معلناً أن التجسّد هو موقف من الحياة يرفض الانفصال عن الواقع مهما كان قاسيًا.
إن الاغتراب عن لغة الوطن وربطها بالمحتل ليس تجسيدًا لما قام به المسيح، بل هو تكميمٌ للأفواه؛ إذ تُطفئ تلك اللغة النابضة بالحياة روح المقاومة والمعرفة، فتضل كلمة الله متوهّجة بين جهل المعاني، وجهل الثقافة، وجهل لغة التعبير. استطاع المسيح أن يكشف عن ذاته وعن الآب بكلمات ولغة عصره، ومع ذلك عبّر بلغة صادقة ومتوّقة بالأمل. هل نعرف حقًا معنى الكلمات التي نستخدمها اليوم؟ وهل تظل تلك الكلمات قادرة على تجسيد الواقع وإعلاء صوت المظلومين؟
الراجل بيتربط من لسانه، أنا عند كلمتي، والراجل بكلمته.
كلام الليل مدهون بزبدة، يطلع عليه النهار فيسيح، كرمزٍ للتجديد الذي يأتي من عمق الحقيقة الإلهية التي تتحدى كل ظلام.
إنجيل الاغتراب وإنجيل التجسّد.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ