سمير مرقص
(١) «من إقليم إلى أقاليم الشرق الأوسط»
قبل نهاية العام، كتبنا فى هذا المكان ننبه إلى أن ما يجرى فى الشرق الأوسط سيسفر عنه «سياق مغاير». وأن الحديث عن «اليوم التالى» لن يكون وصلًا لما انقطع. فالشرق الأوسط الذى ألفناه سوف يتغير كليًا، ومن ثم لابد أن نتجاوز فكرة الحديث عن اليوم التالى الذى يفترض بقاء الأمر الواقع على ما هو عليه، وأن كل ما يلزمنا اتخاذ إجراءات تضمن الاستقرار لما كان تم التوافق عليه. بيد أن واقع الحال يجسد يومًا بعد يوم أن من قاموا بتقسيم الإقليم قبل ١١٠ سنوات، تقريبًا، عاد أحفادهم: فى المركز وامتداداتهم فى المنطقة، يعملون على «تغيير الواقع الاستراتيجى للشرق الأوسط». ليؤكدوا مرة أخرى فى أقل من قرن من الزمان أن الشرق الأوسط ليس حيزًا جغرافيًا ثابتًا، بل إنه «مفهوم، مجرد سياسى»، يتسم بالمطاطية الجغرافية، وقابل لإعادة التشكيل من وقت لآخر وفق الاستراتيجيات الدولية التى تتعلق من جهة بتعاظم القوة والهيمنة فى إطار التنافسات الاستعمارية الجديدة، ومن جهة أخرى بتقاسم الثروة والموارد لصالح «الكرتلات» الاحتكارية «للأوليجاركية» القديمة والجديدة، إضافة إلى القوى الإقليمية البازغة المتشاركة فى تلك الكيانات الاحتكارية. ما سيفرض- بالضرورة- أن يتحول إقليم الشرق الأوسط إلى مجموعة من الأقاليم. بلغة أخرى، أن الشرق الأوسط الذى تم تقاسمه بين قوى عظمى غربية بالأساس (بريطانيا وفرنسا فى صيغة سايكس بيكو، فأمريكية أطلسية بعد الحرب العالمية الثانية) سوف يتسع مجال تقسيمه- إضافة إلى القوى الغربية الأطلسية- ليشمل قوى عظمى متعددة كذلك القوى الإقليمية البازغة (راجع مقالى: السياق الإقليمى التالى، واستقطاع الخرائط وفيروس التفكيك).
(٢) «من التقسيم/ التقاسم للوحدات السياسية إلى التقسيم/ التقاسم الاثنى»
إن ردة فعل الولايات المتحدة الأمريكية- وغالبية دول الحلف الأطلسى إضافة للترقب الصينى والروسى والصمت الهندى... إلخ- على الحرب فى غزة، والتى صبت فى اتجاه «الدعم المطلق للعدوان العسكرى الوحشى» لإسرائيل unequivocal support for a brutal military assault؛ سواء من إدارة بايدن فترامب على التوالى، قد أدت إلى تبنى رؤية تصب فى اتجاه فرض هندسة قسرية على المنطقة. أو ما بات يُعرف فى الأدبيات الحالية «صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط»؛ تنطلق مما بات شائعًا بعملية «تفاوض تاريخية كبيرة historical grand bargain؛ تتجاوز التقسيم/ التقاسم التاريخى الذى كان يقوم على وحدات سياسية- مستعمرة فمستقلة لاحقًا- إلى تقسيم/ تقاسم اثنى. وسوف يفتح التقسيم/ التقاسم الاثنى- أردنا أو لم نرد- الباب إلى تفاقم الصراعات الأهلية وتمدد الأيديولوجيات الدينية الإقصائية، ونسج روابط عابرة للحدود بين بعض الجماعات الهوياتية/ الاثنية فى الداخل، وقوى الخارج الإقليمية والدولية. ولاشك أن ما سبق سيسبب انهيارات فى البنى الدولتية والمجتمعية، وسريان ما أطلقنا عليه مبكرًا «فيروس التفكيك»، وبالأخير، ينتج سياقًا مغايرًا، حيث تتفكك أوصال الدول لصالح مساحات جغرافية جديدة ذات سمات اثنية ضامنة لتدفق فائض القيمة على مهندسى التقسيم/ التقاسم، وتمهيد الطريق لإنجاز اقتصاد الممرات Corridor Economy؛ والحيلولة دون اشتعال «برميل البارود powder - keg»؛ إذا ما استعرنا الوصف التاريخى الذى اعتمد فى وصف منطقة البلقان مطلع القرن العشرين. والسؤال: هل ستفلح هندسة التقسيم/ التقاسم القسرية الاثنية؟
(٣) «تحولات جذرية وزمن جديد»
وواضح أن عملية التفاوض التاريخية المشار إليها تتم بين العديد من القوى، كما أنها لا تنجز- فقط- تسويات تتعلق بالشرق الأوسط، بل تجتهد فى إنهاء الكثير من الصراعات العالقة فى عديد من بقاع العالم من خلال المقايضة الجيوسياسية. ولعل فك الارتباط الجزئى الذى يعمل عليه ترامب بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا- خاصة فيما يتعلق بالمسألة الأوكرانية- لصالح تحقيق توافق أمريكى- روسى إنما يعكس أن هناك تحولات نوعية تطول عالم اليوم تشير إلى أن هناك: أولًا: ارتدادًا تاريخيًا قد لحق بالمنظومة الدولية والنظام الاقتصادى العالمى فى وقت واحد (يتمثل فى الخلاف الأوروبى- الأمريكى، كذلك الإصرار الترامبى على عدم الوفاء بأى التزامات مالية أممية)، وثانيًا: عطبًا قد أصاب شرعية «وستفاليا» (معاهدة تمت سنة ١٦٤٨ أنهت حرب الثلاثين سنة فى أوروبا، وأسست للنظام الدولى القائم)، وثالثًا: تحولًا بنيويًا يعيشه العالم اليوم على عديد المستويات، وكلها تحولات تؤكد أن هناك سياقًا مغايرًا يتشكل إقليميًا ودوليًا فى آن واحد. وهناك من يعتبر ما يحدث طبيعيًا فى ظل إفلاس نخب ومؤسسات وسياسات ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ثم على القوى الدولية والإقليمية أن تتعاطى بنظرة طازجة مع القضايا العالقة إقليميًا (القضية الفلسطينية)، ودوليًا (المسألة الأوكرانية)، وأن تؤسس، بالأخير، لزمن جديد.
نقلا عن المصرى اليوم