القمص يوحنا نصيف
أبانا الذي في السماوات
قال الرسل للربّ: علّمنا أن نصلّي.
أليس جديرًا بنا نحن أن نسأل الربّ ذات السؤال؟
+ الصلاة هي رفع العقل والقلب إلى الله.. فأقول للمسيح: علّمني كيف أرفع قلبي وفكري إلى فوق إلى الآب.
+ الصلاة هي الارتماء في حضن الآب. فما دمت أتواجد في الصلاة كابن في المسيح، لذلك أتوسّل إلى المسيح أن يعلِّمني كيف أرتمي في حضن الآب بدالّة البنين، لأنّه هو الكائن في حضنه الأبويّ كلّ حين.
+ الصلاة هي الوجود الدائم في حضرة الله، ولا يستطيع أحد أن يعلّمني هذا غير المسيح الواحد مع الآب.
إذن بادئ ذي بدء يجب أن ألِحّ في الطلب إلى المسيح قائلاً: علّمني أن أصلّي، إذن الصلاة يجب أن أتعلّمها بحقّ.
هي ليست كلمات تُقال، أو عبارات تُتلَى، أو فُروض تؤدَّى..
الصلاة ليست الكلمات، يقولها أيّ أحد..
خُذْ مثلاً المزامير التي نتلوها في الصلاة.. هي أصلاً صلاة صرخ بها قلب داود قَبلاً بالروح (قال داود بالروح القدس)، في ظرف من ظروف الحياة التي عاشها، نطق بها بالروح، وهو في الروح.. وصلّى بها مُبلِّلاً فراشه في ليل الحياة المظلم بالدموع.
فهل هي مجرد كلمات تُقال؟ لا.. إنّها صلاة.
فإن تلاها الانسان وهو في حالة الصلاة، وروح الصلاة، فإنّ كلمات المزمور تعطيه قوّتها، لأنّها أصلاً كلمة حيّة. وحينما يردّدها إنسانٌ مجرّد ترديد القراءة، فلن يشعر في داخله بقوّة الكلمة ولا تلمس صميم حياته.
لذلك عندما نتوجّه إلى الله الآب لنناديه، ونحن بعيدون قلبيًّا عن نعمة البنوّة، نكون كَمَنْ يقولون: يارب، يارب.. أو يظنّون أنّ بكثرة كلامهم يُستجاب لهم.
ليتني إذن قبل أن أرفع بَصَرِي ويَدِي، لأُنادي الآب: أبانا.. دعني أدخُل إلى صميم قلبي، وأتحسّس نعمة البنوّة الكائنة في أعماقي، التي هي إنساني الداخلي وكياني العميق.. المخلوق ثانية.. الذي هو "أنا في المسيح".. ذاتي الجديدة. وهي بالحقيقة نعمة البنوّة؛ فإن أدركتُها أدركتُ كياني الحقيقي، وبه -بكلّ الوعي الروحي- أُدرِك حَقّي لدي الآب كابن حقيقي. حينئذ أصرخ إلى الآب بدالة الابن، وبكلّ ما للابن لدى الآب.
حينئذ أشعر في أعماقي كيف يحتويني الآب، ويحتضن روحي، ويُعَزِّي نفسي، بَعيدًا عن كلّ مقاييس المادة، ومصطلحات اللغة البشريّة.
هناك أجد راحتي؛ التي قال عنها تعالوا وأنا أريحكم..
حيث تستقرّ النفس في السلامة، وتَنعَم بفرحٍ لا يُنطَقُ به.
إنّها ليست كلمات الصلاة بل هي حالة حضور حقيقي في الله.
وما تتحَصَّل عليه النفس في الصلاة الحقيقيّة يَصعُب جِدًّا وصفه. لذلك كان آباؤنا القدّيسين وهم في حالة الصلاة الدائمة، قليلي الكلام جِدًّا مع الناس.
لا شَكّ أنّ القُدرة على إدراك ذلك يومًا بعد يوم، مع استقامة السيرة، ومراقبة النشاط الخارجي من جهة الحياة العالمية، سيُهَيِّئ للنفس أكثر فأكثر التنعم الحقيقي بالوجود في حضرة الله؛ وشيئًا فشيئًا لا تُصبِح الصلاة عملاً نؤدّيه في أوقات محدودة.. بل حالة دائمة لا تستطيع كلّ هموم الدُّنيا أن تأتي عليها أو تفسدها..
وأبسط مَثَل على هذا هو أن تَرَى طفلاً صغيرًا، يَجري ويلعب في وجود أبيه تحت بصره وفي رعايته.. هذا المنظر الحِسِّي المعروف والمألوف، هو التعبير الحقيقي عن ما تتمتّع به النفوس المختارة لنعمة البنوّة من الوجود الدائم في حضرة الآب السماوي، وهذا على مستوى الروح شيءٌ لا يُعبَّر عنه بكلمات بشريّة.
القمص لوقا سيداروس