كمال زاخر
الإثنين 24 فبراير 2025
[4]

يبقى فى اقترابنا فترة غاية فى الأهمية فى مسار الكنيسة، ممتدة من ستينيات القرن المنصرم وحتى لحظة كتابة هذه السطور، وهى مرحلة طويلة زمنياً ـ ستة عقود ونصف العقد ـ شهدث احداثاً جساماً، على المستويين الوطنى والكنسى، خمسة رؤساء جمهورية، وثلاثة باباوات بطاركة، وثلاثة حروب، وتقلبات سياسية واقتصادية ومجتمعية مثيرة، الأمر الذى يجعل اقترابنا مدققاً وحذراً، مع حالة التربص التى تحيطنا، والضبابية التى تلف الأجواء  الكنسية بأكثر تحديداً، وظنى أن مناخاتنا تقترب من توصيف القديس بولس عن حاله عندما قدم إلى مكدونية "لَمْ يَكُنْ لِجَسَدِنَا شَيْءٌ مِنَ الرَّاحَةِ بَلْ كُنَّا مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: مِنْ خَارِجٍ خُصُومَاتٌ، مِنْ دَاخِل مَخَاوِفُ" (2كو 7 : 5).

ويمكن إجمالاً أن نوزعها ـ كنسياً ـ على ثلاث مراحل رئيسية، بتتابع الثلاث باباوات؛ البابا القديس الأنبا كيرلس السادس (1959 ـ 1971)، والبابا الأنبا شنودة الثالث (1971 ـ 2012)، والبابا الأنبا تواضروس الثانى (2012 ـ        )، واجدنى بغير حاجة إلى القول بأن هذا الاقتراب يرصد فقط المناخات والأحداث الكنسية التى انتهت بنا إلى ما نحن فيه من اشكاليات التوافقات والمواجهات والتراجعات، بعيداً عن الجدل اللاهوتى وبغير اختزال يستريح فى أن يحملها لشخص أو شخوص بعينهم، وقد ينتهى رصدنا إلى طرح مخارج تذهب بنا إلى مرحلة رأب الصدوع ومواصلة بناء حياة بحسب المسيح، تؤكد على كوننا كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية.

نتوقف اليوم مع المرحلة الأولى والتى نحسبها المؤسسة لما تلاها وهى مرحلة تولى البابا كيرلس مهام الكرسى المرقسى، والتى امتدت نحو عشر سنوات.
كانت لحظة اختيار القمص مينا المتوحد ليصير البابا كيرلس السادس (10 مايو 1959) نقطة بداية لعصر جديد للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويمكن أن نحسبه البابا التوافقى، بين القوى المتخالفة داخل الكنيسة وبعضها، وبينها وبين القوى المتوجسة والمترقبة خارجها، بعد مارثون امتد لنحو ثلاثة سنوات (نوفمبر 1956 ـ مايو 1959) شهدت جولات وخلافات بين اجنحة متباينة دعت لتدارس اعداد لائحة جديدة تنظم عملية انتخاب البابا البطريرك، لتصدر هذه اللائحة فى 3 نوفمبر 1957، وقد اشرنا قبلاً إلى التعديلات التى وردت فيها عن سابقتها التى صدرت فى 1928، وأشرنا فى ذات السياق لتلك الأجنحة.

كانت الملاحظة الأساسية أن قداسته لم يكن  محسوباً على تيار بعينه، وأنه قدم من الوحدة التى اختارها لحياته الرهبانية إلى الكرسى المرقسى مباشرة، وهى وحدة لم تخلو من التعاطى مع الناس خاصة الباحثين عن معونة الهية بالصلاة فى مواجهة متاعبهم الحياتية والروحية، وتتلمذوا عليه، فى صومعته فى تخوم مصر القديمة، وكانت الملاحظة الأبرز أنه رجل صلاة يؤمن بأن المذبح هو صندوق الحلول لكل ما يقابله من متاعب، وكل ما يواجه الكنيسة من أزمات، وفى عهده شهدت الأديرة انتعاشاً على مستويين، إقبال الشباب بتنويعاته على طلب الرهبنة، وسعى الأسر القبطية لزيارتها، ربما تأثراً بمبادرات شباب الأربعينيات الجامعى الذى ترك وراءه الفرص المتاحة والمتميزة لحياة مستقرة قاصداً الرهبنة فى نهايات الاربعينيات ومنتصف الخمسينيات، فكانوا الشرارة التى غيرت حال البرارى وصحراء الأديرة. وكادت أن تجعل من الإسقيط واحة سمائية. على أننا يجب أن نذكر أن بعضاً من قاصدى الرهبنة هؤلاء كانوا يبحثون عن ملاذ آمن لم يجدوه فى العالم القادمين أو الفارين منه، وبعضهم دفعته صدمة ما أو فشلاً اغلق فى وجوههم سبل الحياة بين الناس. وكان اغراء التحقق فيما بعد يشكل الهدف عند عدد غير قليل، وبعض من قاصدى الرهبنة طُلب منهم هذا استيفاء لشرط من شروط السيامة الاسقفية، رغم أن الكنيسة كانت قبلاً تقبل رسامة اساقفتها من الأتقياء المتبتلين خارج منظومة الرهبنة.

حمل البابا كيرلس معه نهجه الرهبانى المختبر، الصلاة الدائمة، لتشهد كنيسة القديس استفانوس الملاصقة للكنيسة المرقسية الكبرى، قداساً يومياً يصليه قداسته والنهار بالكاد يبعث بواكير انواره، وفيه احيا طقس الصلاة بالأجبية، والتأكيد على صلوات التسبحة، فى العشيات وقبيل القداسات، وسرعان ما يسرى دفء النسق البابوى هذا فى كل الكنائس، وتشهد الكنيسة صحوة فى العبادة الليتورجية، سر بقائها وقوتها، كانت ابوابه مشرعة لكل الرعية.

يوماً يشير عليه أحد خلصائه من ابناءه لصيقى الصلة به، الدكتور المحاسب حنا يوسف حنا، الاستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، بحسب رواية الدكتور حنا لى فى واحدة من لقاءاتى به،  أن يضم إلى سكرتاريته راهبان من الشباب النشطاء، واقترح عليه اسمى الراهبين مكاري السرياني وأنطونيوس السرياني، كنوع من تقدير سعيهما لطرح اسم الراهب القمص مينا المتوحد في قائمة المرشحين للبابوية، إضافة إلى الدفع بدماء شابة في منظومة إكليروس الكنيسة، بما يملكان من طاقة وقدرة تنظيمية وعلاقات متعددة يمكن توظيفها لخدمة الكنيسة، واستجاب له البابا، ثم عاد بعد فترة ليقترح عليه رسامتهما أسقفين ليصيرا أعضاء بالمجمع المقدس ومن ثم يدعمان قرارات قداسته داخل المجمع، وللمرة الثانية يستجيب له البابا.

وهنا يأتى دور مهندس تفكيك الأزمات الراهب القمص صليب سوريال، وهو خريج كلية الحقوق وله دراسات فى القانون الكنسى، وقريب للبابا بالجسد، كان الحل الذى قدمه أن الكنيسة تعطى للبابا الحق فى رسامة اسقف عام ضمن مساعديه دون ايبارشية، وهو أمر لا يتطلب موافقة المجمع، فكان أن رسم الأول اسقفاً للخدمات الاجتماعية وشئون المهجر باسم الأنبا صموئيل، والثانى اسقفاً للتعليم والكلية الإكليريكية باسم الأنبا شنودة.

يصادفنا اسم القمص صليب سوريال مجدداً بعد سنوات (1969) حين يتوسط للصلح بين البابا كيرلس والقمص متى المسكين وينجح فى ذلك بعد جهود دعمها الأنبا ميخائيل مطران اسيوط آنذاك، ويقترح الأب المطران أن يذهب الأب متى المسكين ومن برفقته من الرهبان الى دير الأنبا مقار الذى يترأسه الأب المطران، ويوافق البابا، وبالفعل يذهب الأب متى ورفاقه الى ذلك الدير، ليبدأ فى تعميره، ويحكى ابونا صليب تفاصيل هذا الصلح فى تسجيل له.

بين القداسات اليومية، وانفتاح الأديرة لآلاف الزائرين المنبهرين بحياة الرهبان، التى تحتشد بها كتب السير الرهبانية، القائمة على النسك والتقشف وترك العالم، والصلاة المتواترة، تنتقل الأجواء الرهبانية إلى كنائس القرى والمدن، ومعها تتسلل الى الكنيسة مشكلتان، يتفاقما مع الأيام.

فالأديرة يتزايد فيها الرهبان، بما يفوق التوازن اللازم لتوفر تلمذة حقيقية تضمن قدرة الرهبان على الالتزام بنذورهم وملاحظة نموهم الروحى، ومع توافر التخصصات العلمية بين الرهبان، وزيادة عطايا المحبين للأديرة، وتوجه الدولة لدعم استصلاح الصحراء زراعياً، بدأت الأديرة فى تطوير "عمل اليدين التقليدى" إلى مشاريع استصلاح الأراضى المحيطة بالأديرة، كانت البداية عند دير الأنبا مقار، ونجحت تجربته، والتى دعمها خبرات غربية بالتواصل مع الجالية المصرية القبطية خاصة فى المانيا، واستتبعها مشروعات مرتبطة بالمجال الزراعى، تسمين العجول والثروة الداجنة، ومعها ظهرت الحاجة لمشروعات التصنيع الزراعى. وانتقلت التجربة الى غالبية الأديرة، بامتداد خارطتها، ورغم ابهار التجربة، إلا انها لم تلتفت الى التوازن بينها وبين البناء الروحى للرهبان فى كثير من الأديرة، لتتسلل الاختلالات الحياتية الى داخلها، وزاد من وطأتها انفتاح غالبية الأديرة للزيارات بكل ما تحمله من ضغوط وما تنتجه من متاعب ومخاطر تتهدد الراهب والزائر وسلام الدير وتربك الكنيسة المحلية، وهى امور تناولناها قبلاً فى كثير من الأطروحات، ولم تلق من يصغى.

على جانب أخر تتجه الكنيسة ـ انبهاراً ـ الى رهبنة الفضاء العام بها بما فيه الفضاء الاجتماعى، بدأ الأمر بسيطاً ثم تفاقم بفعل تصاعد الترويج لسير الآباء الرهبان والمتوحدين، والنساك، بكل ما تحمل من قدرات روحية ومعجزية، فى مقابل ضغط المعيشة وخفوت التعليم الآبائى، وعوامل أخرى قد نعود اليها لاحقاً. ونجد انفسنا أمام ممارسات شكلية وحياة روحية هشة وربما متراجعة.

يعود اسم القمص صليب سوريال للظهور بجوار البابا، الذى يضيق ذرعاً بتصعيد اسقف التعليم تحديه لتعليماته، ويواصل جولاته بمختلف الايبارشيات، مما استفز اساقفتها، وتحويل اجتماعه الاسبوعى، عبر فقرة الإجابة على اسئلة الحضور، إلى منصة رسائل للكنيسة والدولة، فكانت مشورة ابونا صليب أن يقوم البابا برسامة اسقف للبحث العلمى ومعهد الدراسات القبطية، يُحجِّم من نطاق عمل اسقف التعليم، وفى  10 مايو 1967يقوم البابا برسامة الأنبا غريغوريوس فى هذا الموقع، الأمر الذى اعتبره اسقف التعليم اقتطاعاً من صلاحياته، وهو عنده يماثل اقتطاع جزء من ايبارشية فى حياة اسقفها، ومن ثم فهو مخالف لقوانين الكنيسة.

تستمر مجلة الكرازة لسان حال اسقف التعليم فى منهجها مما يقلق البابا الذى يصدر أوامره لاسقف التعليم بالعودة إلى ديره ووقف صدور مجلة الكرازة، فيكتب الأب الأسقف افتتاحية عددها الأخير، اكتوبر 1967، فى هذا الإصدار، عارضا ابعاد الأزمة برؤيته وقرار عودته للدير، وينهى عرضه بقوله [ لقد إضطررت ياإخوتى القراء أن أكلمكم بصراحة بعد صمت طويل، حتى تتدبروا الأمر معنا فى مصير كليتكم الإكليريكية .. أما أنتم ياإخوتى الإكليريكيين، فإن كان بسببى قد حدث هذا النوء العظيم عليكم، فأنا مستعد أن أبتعد لكى تهدأ الأمور، أنا مستعد أن أرجع إلى الدير، إلى مغارتى المحبوبة فى الجبل، إقضى بقية أيام غربتى هناك، وأريح واستريح "ويكفى اليوم شره" ... أما الإكليريكية فهى كأى عمل من أعمال الله لابد أن تصطدم بصعوبات ومعوقات، وكأى عمل من أعمال الله لابد أن تنتصر على الصعوبات والمعوقات ].

ثم ترد عبارة { ربنا موجود } فى برواز كبير، عقب هذه الكلمات وقبل توقيع الكاتب " شنودة أسقف المعاهد الدينية والتربية الكنسية ".

تشهد حبرية البابا كيرلس ثلاثة أحداث مهمة؛ الأول وضع حجر أساس الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وهي المقر الرسمي للبابا البطريرك، فى 24 يوليو 1965م مواكبًا للاحتفال بذكرى ثورة يوليو 52، في رسالة ذات مغزى للعالم أجمع، وحضر الاحتفال مشاركًا في وضع حجر الأساس الرئيس جمال عبد الناصر، والإمبراطور هيلاسيلاسي إمبراطور إثيوبيا، والعديد من رؤساء الكنائس في العالم.

والثاني عودة رفات القديس مرقس الرسول مؤسس الكنيسة المصرية وأحد كتاب الإنجيل الأربعة، وكان البابا كيرلس السادس قد انتدب وفدًا رسميا للسفر إلى روما لتسلم الرفات من البابا بولس السادس، يتألف من عشرة من المطارنة والأساقفة بينهم ثلاثة من المطارنة الإثيوبيين، إضافة إلى ثلاثة من كبار أراخنة الأقباط. وعادوا به في 24 يونيو 1968م، وتم استقبال الرفات في احتفال مهيب بدأ من مطار القاهرة حتى الكاتدرائية المرقسية، في ثاني يوم لافتتاحها رسميًا، الذي تم في حضور الرئيس جمال عبد الناصر، والإمبراطور هيلاسيلاسي.

والثالث يقع تاريخه بين الحدثين وهو ظهور طيف العذراء مريم وبعض الظواهر الروحية على قباب كنيستها بالزيتون، 2 ابريل 1968، وقد رط محللون بين هذا الحدث وبين هزيمة يونيو 67، باعتباره دعماً سماويا للمصريين، يخفف من وطأة حزنهم وانكسارهم آنذاك.

على جانب أخر لم يختلف قداسة البابا كيرلس عن سابقيه في الموقف المناوئ للمجلس الملي باعتباره رقيبا ماليًا على البابا، في مناخ مجتمع أبوي، خارج الكنيسة وداخلها، وظني أن لهذا علاقة ما بصدور القانون رقم 264 لسنة 1960م الذي أنشأ هيئة الأوقاف القبطية، ليدير ويشرف على أوقاف الكنيسة، وهي المهمة التي كان يقوم بها المجلس الملي العام، ضمن عديد من المهام الأخرى، واللافت أن المجلس الملي يتم اعتماد تشكيله بقرار من وزير الداخلية، فيما يتم تشكيل هيئة الأوقاف القبطية بقرار جمهوري.

كثير من متاعب كنيسة اليوم تمتد خيوطها الى اشكاليات رهبنة المجال الكنسى خارج الأديرة، وترهل الحياة الديرية، وانفتاحها للزائرين بلا ضوابط، وإقرار رسامة اساقفة عموم بل والتوسع فيها خارج الإطار الذى رسمه البابا كيرلس، وهو ما سنعرض له لاحقاً، واغلاق مدرسة الرهبان بحلوان وعودة الرهبان الدارسين فيها الى اديرتهم فى سياق قرار بعودة كل الرهبان المتواجدين خارج الأديرة، ولم يقبل البابا نصيحة القمص صليب سوريال فى استثنائهم لدورهم المهم كمرحلة وسيطة تنقل الرهبان المرشحون لرتبة الاسقفية من مناخات العزلة والنسك الى الخدمة وسط العالم.

يرحل البابا كيرلس فى 9 مارس 1971، بعد شهور قليلة من رحيل الرئيس جمال عبد الناصر 28 سبتمبر 1970، ومعهما ترحل حقبة تميزت بالسلام الاجتماعى، وبعدهما تباغت موجات التطرف مصر والكنيسة وتبدأ مرحلة مرتبكة، تشهد فيها الكنيسة تقلبات عاتية.

اعزائى القراء مازلنا بحاجة إلى مواصلة البحث فى جذور متاعب كنيسة اليوم فدعونا فى لقاء تال نواصل البحث عنها وفيها.