ماهر عزيز بدروس
يطرح "لوك فيري" في كتابه الفريد : " معني الجمال : في أصول الثقافة المعاصرة " تحليلا  لمفهوم الجمال والفن عبر العصور ، ويطرح تساؤله الحاسم : " كيف يمكن أن نعيش بدون الجمال ؟ بدون التعددية في الأذواق والألوان والرموز والمعاني ؟ " .

لقد كان الفن لدي الإغريق إشارة إلي النظام الكوني والكمال الإلهي ، ووسيلة للتعبير عن التناغم والكشف عن الترتيب والتنسيق الإلهي وتجلياته المرئية من خلال الأشكال والمقاييس المثالية .

يؤكد "لوك" بهذا المفهوم أن الفن من خلال تمثيل الجمال سمح بالتواصل مع النظام الأعلي والمبادئ الكلية .

وأعاد الفن في العصور الوسطي وظيفة الفن بوصفها تجسيد للحقيقة العليا الخارجة عن الإنسان ، التي تتمثل في بهاء الصفات الإلهية .

بيد أنه في القرن السابع عشر دارت " ثورة الذائقة الفنية " حول وجود حس داخلي للجمال في قلب الإنسان ، ما يجعل هدف العمل الفني هو إرضاء الحساسية البشرية تجاه الوجود ، وليس تجسيد حقائق كونية أو إلهية  .

وبمجيء القرن الثامن عشر اتخذت فلسفة الفن شكل نظرية تتعلق بالحساسية الجمالية مع بدء علمنة الثقافة ، فلم تعد الأعمال الفنية انعكاسا لعالم متعال ، بل إبداعا بشريا كاملا .

وفي مصر تعرض الجمال منذ خمسينيات  القرن الماضي وحتي اليوم إلى نكسة غير مسبوقة ، فراحت تنتشر كل أشكال القبح في معالم المجتمع وحياة الناس ، ما توطن بفعل انتشار ثقافة رجعية مرتدة حاربت الجمال ، وانتقمت من الفن ، وعاشرت القبح ، ولم تنفر من القذارة ، بل عايشتها كما لو جزء تفاخر به من صميم حياتها يحيط بها من كل جانب ، فتم ترك "الزبالة" تنتثر في الشوارع والأمكنة ، وتفشي الفساد في المحليات التي أهملت نظافتها وصيانتها والعناية بها ، وتغلغل الفكر الأصولي في المجتمع الذي انقلب سلفيا محضا علي أثر ردة هائلة في الثقافة والإعلام والتعليم والممارسات ، بفعل الهجرة لبلاد الوهابية البدوية والعودة منها ، وبتحريض فكري خرج من بطون الكتابات المتطرفة  والجماعات الجهادية الإرهابية ،  يصور للعامة ذات الأغلبية الجاهلة أن ذلك هو صلب الاعتقاد ، وفخر الأسلاف .

وامتد أثر الارتداد الحضاري ذلك في حياة الناس وسلوكهم وكل ممارساتهم ، من الملبس الذي أخذ الأطفال في المدارس بزهر العمر إلى عالم كئيب أسود خال من الألوان والبهجة ،  وأخذ النساء والفتيات الجميلات في الأكفان السوداء القبيحة  المستعارة من البداوة وحياة الكهوف ، وأخذ الرجال إلي مظان متدنية بعيدة كل البعد عن تذوق الجمال والإحساس به ،  الذي تم اختزاله لديهم في الشهوة الحسية العمياء وحسب ،  إلي سائر جوانب الحياة في المجتمع :  من القول القبيح ، إلي السلوك القبيح ، إلي التعليم القبيح ، إلي الإعلام القبيح ، إلى الغناء القبيح ، إلي العمارة المتنافرة القبيحة ، إلي الفوضي التي اغتالت النظام فاغتالت الجمال وأشاعت القبح في الشارع والمجتمع وحياة الناس ، إلي ثقافة القبح ، واللافن القبيح .

يتغول الكثيرون ويزعمون أن هذا القبح من التدين السليم ، بينما عاشت مصر متدينة تدينا  سليما حقيقيا لعقود عدة قبل الهجمة الأصولية العتيدة ، حاسرة في ألوان مبتهجة وتشكيلات متناسقة مبدعة بعيدة عن الأكفان السوداء القبيحة ، والفوضي التي تعم كل الأشياء ، ولم يحتسب ذلك غير عاد أو معاد للتدين السليم ، لكنه احتفظ بالجمال كقيمة سامية لا غني عنها للحياة الإنسانية الطبيعية .

ولن أحدثك عن مصر الفرعونية أو مصر الخديوية أو الملكية ، التي عاشت ترفل في الجمال والرقي في كل دقيقة من دقائق الحياة ، وكان جمالها مثالا حضاريا رائعا يحتذي .

الحق أننا غالبا ما ينسينا العقل السائد ، والاعتياد ،  والفكر الحاكم ، وضغوط العوائد المسيطرة ، فضلا عن الرغبة في إنتاج الجمال ما بين الصناعة والثقافة في الحياة الحديثة ، أن الجماليات عامل أساسي في عملية التخطيط ، وأنها تنطوي علي صعوبة غالبة في تنفيذها .

إن البعد الجمالي في أي مظهر وأي عمل هو تلك الجودة الظاهرة والباطنة التي يصعب تعريفها ، التي تولد الاستعداد للتضحية بصفات أخري وظيفية أو اقتصادية في التشغيل والمنفعة من أجل تحقيقها ، وهذه الجودة التي يصعب تعريفها تحقق التوازن والتناغم الذي يحول الأشياء إلي أعمال فنية حية ، تلهم وتثير التقدير العميق ، لكننا نجد الآن أن الرداءة والقبح - كما يعبر آلان دونو الأستاذ بجامعة باريس -  يشكلان انقلابا تقوده أغلبية متمركزة حول مصالحها علي حساب الجمال والصالح العام  .

هذه الرداءة التي تفرض علينا تبدو كقوة خفية تقوض أسس الحياة السامية والمجتمع ، فتطرح معايير التراجع والتوافق السلبي والمصالح الفردية ، بدلا من معايير التميز والابداع ، ما يؤدي إلي قتل الجمال في النفوس والمجتمع .

لقد استولت طبقة " المتدنيوقراطيين " علي السلطة في كل المجالات تقريبا : من الفكر إلي الاقتصاد إلي الثقافة إلي التعليم إلي الإعلام إلي الممارسات ، وأدت الرغبة المحمومة  في إخضاع كل شيء لمنطق الأصولية و اليسار والليبرالية المتطرفة - التي هي الوسيلة الرئيسية " للمتدنيوقراطيين " إلى إنتاج الرداءة والقبح - إلي انهيار الذوق والجمال في المجتمع ، ما ينطبق علي الخبرة الاقتصادية والفنون والثقافة والبحث العلمي .

ونشير هنا إلي أن مصطلح الرداءة الذي استخدم أعلاه لا يشير إلي انعدام الكفاءة ، بل علي العكس هو يعني كفاءة مضبوطة بدقة لتكريس  دوجما سائدة ومصالح معينة وأفكار متراجعة.

وعلي ذلك يتقلص مفهوم الجمال جدا في مجتمع تسوده الرداءة والتفاهة والقبح ، حيث يختزل الفكر المسيطر والمصلحة والربحية الجمال الذي يتطلب عمقا وابتكارا وبحثا عن المعني إلي مجرد الامتثال لتوقعات الدوجما المهيمنة  ،  والأفكار الأصولية ، والمصلحة ، والمعايير التي تفرضها نخب " المتدنيوقراطيين " والقوي المسيطرة .

من هنا تقفز هذه الأسئلة أمامنا بقوة : كيف يمكن الحفاظ علي الجمال غنيا بالمعاني ،  متصلا بالقيم الإنسانية الجوهرية ، في مجتمع تحكمه الدوجما المتيبسة ، والفورية والوصول السهل السريع علي حساب العمق والأصالة ؟ كيف يمكن أن نتغير إلي السمو بالذوق وإثراء الجمال ؟
ان مجتمع المصالح والأفكار البائدة يكاد يطمر لحظات التأمل التي تمنح الجمال معناه الحقيقي ، لذلك يتعين علينا أن نعيد للمشهد الإنساني المنظور الفكري السليم ، والحفاوة بالإنسانية ، والتربية الثقافية ، والتربية الفنية ، كنافذة تفتح العيون علي الجمال الذي يتخطى اعتياد القبح والقذارة إلي الأبعاد العميقة للروح والشعور .

ولعل أجمل ما يمكن أن نفعله أن نعيد الجمال إلى الناس أنفسهم ، وأن نجعلهم شركاء في صنع الجمال عينه ، ويمكن للفضاءات الحرة لتلاقي الأفكار وتلاقحها أن تعيد تعريف الجمال بأيدي الناس أنفسهم .

ويتعلق الإنقاذ المرجو بدعوة ثورية حقيقية لاستعادة الثقافة الجمالية ، وجعل الجمال انعكاسا حقيقيا للقيم السامية والمبادئ الإنسانية العميقة ، فنزرع بذور الجمال الشامل المستدام ، الجمال الذي يتناغم مع الطبيعة ، ويخصب تنوع الثقافات ، وليس الجمال الذي يذوب في التفاهة والسطحية ، أو يخضع للمصالح والتسارع والأفكار الرجعية ، واعتياد القبح والقذارة .