عادل نعمان

 

.. ولأن الاعتقاد الثابت لدى تيار الإسلام السياسى أن العودة للدين الحنيف وتطبيق الشريعة هما المخرج الوحيد من كل ما نعانيه من مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية، وأن اقتناص الحكم لازمة من لوازم التطبيق، فإن حرية الاعتقاد عند هذه الفرضية تخضع لما كان عند الأوائل، وليس كما تفرضه مستجدات الحياة والتفاعل مع العصر والعلم وما تقرره القوانين ومبادئ الديمقراطية والثورات التحررية، وأولها أن تكون الأديان الحاضرة تاريخيا والثابتة والمدونة معتمدة لديهم، وهى فى تصورهم الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية وطبعا الإسلام وليس غيرها، فلا دين موثق لدى المسلمين عامة سوى هذه الأديان الثلاثة فقط، هذا من الناحية النظرية إلا أنها عمليا غير مقبولة ومردودة عليهم، إلا الإسلام فقط، ولو فتشت جيدا عن الحقيقة فإن الأمر يحملاإزدواحية غريبة، فكيف تكون ثابتة وموثقة ومعتمدة وغير مقبولة؟
 

والممارسات الفعلية والواقع يؤكدان أن حرية المعتقد تضبطها وتوجهها الناحية الشرعية وتقوضها، وما اشترطه الفقهاء وما جاء فى «العهدة العمرية» الثابتة تاريخيا معلن ومؤكد، ويمكن الرجوع إليها كاملة فى أحكام أهل الذمة لابن القيم الجوزية، وما تشترطه من أحكام على أصحاب الأديان الأخرى وكنائسهم ومعابدهم حتى حرمانهم من التشبه بالمسلمين فى لباسهم أو ركوبهم «لا نظهر صلبانا ولا نضرب ناقوسا ولا نرفع أصواتنا على موتانا ولا نتشبه بالمسلمين، ولا نرفع بيوتنا عن بيوتهم» هذه شريعتهم «المسكوت عنها إلى حين»، وهو أمر لا يزال حاكما ومهيمنا على فكر كل هذه التيارات السياسية الدينية.

إلا أن هذا التيار حين يجد نفسه مضطرا ومجبرا لقبول الآخر من أصحاب هذه الأديان فإنه يرفع شعارا ممسوخا «هؤلاء شركاء فى الوطن لهم ما لنا وعليهم ما علينا من حقوق وواجبات»، وكأن الأمر منحة أو هبة وقتما شاءوا، ولا اتفاق بين هذه التيارات فى البلد الواحد فى هذا الشأن، فبينهم فروق واسعة وأميال وفراسخ تبدأ من التطرف حتى الاضطهاد وكسر كل حقوق المواطنة، وهى فترات زمنية لا تخلو من بعض المهادنات أوان الاستضعاف، أو حين يكونون قاب قوسين أو أدنى من كرسى الحكم، ذرا للرماد فى العيون حتى إذا تمكنوا وسيطروا عادوا إلى الأصل الشرعى فى المعاملة وهو «البغض والكره» وهما للأسف كما يزعمون «فى الله».

 
ولذلك فإن المواطنة وحقوقها مرهونة بدين الأغلبية، فمن كان من غير الديانات الثلاث فلا مواطنة ولا حقوق له، وليس هذا استنادا لشريعة هذا التيار المتأسلم فقط، بل فرض هذا الحجر على دساتير دول كثيرة تهاود وتهادن التيارات السلفية والمؤسسات الدينية، حين تقر وتعترف بالأديان الثلاثة فقط، مخالفة بذلك مبدأ المواطنة وحقوق أصحاب الأديان الأخرى، وهو حق أصيل للجميع، بل يشمل هذا التضييق مذاهب ومنابر داخل الأديان الثلاثة، والأدهى من داخل الدين الذى يسبقهم جميعا ويتقدمهم عند الله كما يفرضون، فلو ضيقنا الأمر على كل الديانات، وفقا لما تحتمه وتوجبه هذه التيارات، تماشيا مع مبدأ الولاء والبراء تكون المواطنة ليست منقوصة أو مهزوزة أو مقهورة بل محكوم عليها بالإعدام.

وليست حرية اعتقاد المواطن تحت رحمة من غلب، أو مرهونة بمن ظفر وانتصر، أو بمقتضى رأى دين الأغلبية أو شريعته أو مذهبه أو فقهائه من اجتهد منهم فأصاب أو من اجتهد منهم فأخطأ، أو بقرار من يحكم أو إنفاذ المؤسسة الدينية المهيمنة والمسيطرة سواء بحكم الدستور أو التمكين أو الاحتكار، بل هى ثابتة راسخة مطلقة لا مساس بها، الكل عندها وعلى أبوابها سواء، حق فى حمى الدولة والمجتمع الحر الديمقراطى، مهدرة ومنقوصة فى الدولة الديكتاتورية والدولة العنصرية سواء دينية أو طائفية أو عرقية.

ولما كان الأمر كذلك فإن ركنا رئيسيا من أركان الدولة ينتفى تنافيا تاما، بل ويعطل قيامها واعتمادها والثقة فيها والارتكان والاتكاء عليها، وتصبح كيانا بعيدا فى مضمونه عن كيان الدولة أو الوطن، الدولة الحديثة أهم أعمدتها حرية الرأى والعقيدة، والأهم حرية التصريح والممارسة مكفولة وتحميها الدولة وتحافظ عليها وتصونها، هذا حق إذا سُلب أو اغتصب أو انتزع فقدت الدولة أهم أسباب بقائها واعتمادها، فإن كانت الدولة الدينية لا تعترف بغيرها، وتفرض قيودا وضوابط للأديان الأخرى، تفتح الأبواب المغلقة أحيانا إن أجبرت على فتحها، وترفع القيود عند طلب الاصطفاف فى المواقف الحرجة أو الضغوط الخارجية أو المساومة على صفقة داخلية أو خارجية، أو تطلق ألسنة التيارات المتسلفة تسفه وتزدرئ وتهين أصحاب الأديان الأخرى، كل هذا يجعلها غير مؤهلة لحمل أمانة الحفاظ على المواطن وتأمينه، ومن ثم الوطن بحدوده، والدولة بأركانها وتصبح «الدولة المدنية هى الحل».
 
نقلا عن المصرى اليوم