رحاب السماحى
لم يجرؤ أحد على الإبحار عكس تيار المجتمع كما فعل إحسان عبد القدوس، فكان ثورة متقدة ضد معتقدات بالية تجاوزها الزمن. جمع بين الرقة والجرأة، حالماً ومحارباً ينتفض لقيم العقل، غير مبالٍ بخفافيش الظلام التي تتوارى في دياجير العتمة.

لم يكن سهلاً الانتظار كل هذه السنوات للكتابة عن إحسان عبد القدوس، معلمي وملهمي الأول. لم تكن رواياته مجرد قصص مسلية تكسر ملل حياة مغلقة خالية من الأصدقاء، بل كانت نافذتي إلى عالم واسع من المحبة والتسامح والحرية والتمرد على الأفكار الرجعية. نسجتُ من شخصياته عالمي الداخلي، وفتحت لي آفاقًا لا يمكن بلوغها لولا كلماته.

أجدني مدفوعة بحب وامتنان للحديث عنه، محاولة إنصافه ولو جزئياً مما تعرض له من غبن طوال حياته وحتى بعد رحيله، فمنحه بعض حقه واجب لا شك فيه. تأثرت بشخصية "أمينة" في "أنا حرة" وتمردها على المجتمع الذكوري، وبـ"فايزة" في "الطريق المسدود" وصراعها مع البيئة التي نشأت فيها، وبجرأة "رحاب" في "أنف وثلاث عيون" وصدمتها للمجتمع، إلى جانب عشرات الشخصيات التي صنعت لي عالمًا متمردًا يواجه مجتمعًا متصلب الذهن، يرفض التغيير، رغم أنه محتوم.

واجه إحسان سهام النقد، وعلى رأس منتقديه عباس العقاد، الذي وصفه بأنه رائد "الأدب العاري"، واعتبر أن كتاباته تركز على الجنس، خاصة بعد صدور "لا أنام". غير أن آخرين تناولوا الموضوع ذاته، مثل توفيق الحكيم في "الرباط المقدس" وعبد القادر المازني في "ثلاثة رجال وامرأة"، لكنهما تراجعا أمام الهجوم، بينما صمد إحسان قائلاً: "لم أضعف مثلهما، تحملتُ سخط الناس لإيماني بمسؤوليتي ككاتب، فالكاتب كالطبيب، عليه أن يعالج المجتمع ويصوره من جميع جوانبه، حتى الجنسية، دون أن يجعلها محور القصة."

دأب إحسان على كشف عورات المجتمع، ففي رواية "زوجة أحمد" يقول البطل: "كانت البنات يعشن خلف المشربيات، لكنها لم تحمِهن من الخطيئة، ولم تهذب عواطفهن. كنّ ينظرن من ثقوبها ويُلوحن لعابر السبيل، وحين عجز المجتمع عن ضبطهن، وجد الحل في منحهن حق النظر من النوافذ، ثم الوقوف في الشرفات، ثم الخروج إلى الشارع. مع كل خطوة، قلت الأخطاء، وتهذبت العواطف."

كان تقدير إحسان للمرأة مزعجًا للمحافظين، إذ قال: "هناك فرق شاسع بين قصة تدنس شرف المرأة، وأخرى تفضح جهل الأسر بواجبها نحو بناتها. إذن، أنا مدافع عن كرامة المرأة، ولست هادمًا لها." لم يكن هذا مجرد موقف فكري، فقد كان ابن روز اليوسف، الصحفية الجريئة التي تركت أثرًا عميقًا في تكوينه، كما كان وفيًا لزوجته لولا المهلمي، قائلاً: "هي حبي الأول والأخير، لم تستطع أي امرأة أن تحل مكانها في قلبي."

سار إحسان في طريقه غير آبهٍ بالمخاطر، عازمًا على إماطة اللثام عن وجه المجتمع القبيح. تعرض لحملة تشويه شرسة من مراكز القوى في عهد عبد الناصر، خاصة حين كان يختتم حديثه الإذاعي بجملة "تصبحون على حب"، ففسّروها بنية خبيثة، معتبرينها دعوة للفجور. سبق إحسان زمنه حينما اقترح تحويل ثورة يوليو من حركة عسكرية إلى ثورة شعبية، وأن يعمل قادتها كهيئة حاكمة، لا كجمعية سرية، وهو ما سجنه بسببه مائة يوم في السجن الحربي.

كان يعي أن إبراز أخطاء المجتمع ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة ليدرك الناس أن المشكلة ليست فردية، بل جماعية، ما يستوجب وضع تقاليد جديدة تواكب التطور. لكنه لم يسلم من الاتهامات بهدم القيم، فواجهها بجرأة قائلاً: "لا تزال مجتمعات تحرم الاختلاط، فلا يستطيع الزوج اصطحاب زوجته لزيارة أصدقاء، ولا الظهور بها في الأماكن العامة. لكنهما، بمجرد السفر، ينطلقان ليعيشا كما يريدان، ثم يعودان ليرتديا قيود المجتمع."

بأسى، نجد أنفسنا اليوم مجبرين على مناقشة القضايا ذاتها التي طرحها إحسان، فمجتمعنا منقسم، يدّعي الفضيلة ويختبئ خلف ستارالتدين الزائف

رغم فساده الجوهرى الذى يختبئ بعيدا عن الأعين .