بقلم: أندرو اشعياء
وبينما أجول وسط الوديان الرملية، وأضرب قدمًا في أعماق الصحراء! كلما زادت الحيرة داخلي ونسجت خيوطها لتكمن فترة في عقلي لست أعرف مُدتها ولا قوتها.. كنت أبسط جناحي أفكاري في أمرين: الأول إذ كيف اجتذبتني هذه الحياة وأنا في الأساس قادمًا من غزة لأتقن فن البلاغة والخطابة والفلسفة، مَن الذي عمل في أعماقي وأرشدني؟! كيف لإرادتي الصلبة أن تجرفها هذه الأفكار وهذه الغربة؟! كانت هذه الأفكار أشبه بكثبان رملية عالية يخاف منها أي رحالة! كانت حرب تشكيك!!.. حرب عودة!.. والأمر الثاني عن طبيعة الحياة هنا وعن إخوتي الذين استوعبوا أبعاد الحياة الروحية وساروا قدمًا في طريق الأبوة الروحية الحقيقية، على درب الشهادة الحية العملية، كيف أثرت هذه الحياة على تعاليمهم التي اصطبغت بالحكمة والنضارة الدائمة والخبرة المتجددة؟!! كيف آلت هذه الغربة إلى كل هذه الحكمة؟!

إن الحياة هنا تحتاج إلى أمرين: التلمذة والمثابرة، ولكن أبي انطونه زائريه كُثر، ورواده لا أعرف عددهم ولا ماذا يريدون بالتحديد.. فهذا الشخص له مشكلة، وهذا يريد الترهب، وهذا يقطع أميال المسافات طالبًا للمشورة، وهذا الراهب تحاربه الأفكار، وذاك موعد إعترافه؛ ناهيك بالأكثر عن مَن جرفتهم الأرواح االشريرة وينسكبون أمامه، والذين طُرحوا في الأمراض مُعذبين وجاءت اشتياقات آمالهم بالشفاء قبل أرجلهم وأجسادهم.. ولكن كل هذا لأ بأس منه ولكنه غير نافع لي!! هذا المكان جيد ولكن إن كان ابي يُفرغ لي وقتًا كثيرًا للتلمذة علاوة أن في سذاجة أترقب وقته، وأخباره تؤرقني إذ تعمدت في جهل الصبا أن أتتبع أخباره وقراراته وتصرفاته، وتخدعني نفسي وأفكاري «انني خائف عليه من كثرة زواره!» وهذا ليس مِن شأن لي فيه!! إن سيل الأفكار يكاد أن يطرح بسفينتي في لجّة البحر!! يا الهي كن ضامن عبدك للخير..

كنت أفكر في هذا كثيرًا، ولكن هذه المرة سيطر وقت أكثر في الإسترسال بهذه الأفكار أو قل المخاوف وبالأحري «أوهامي التي تخدعني!» ولوقتئذ لأح هو بطلعته البهية ووجهه المُنير من بعيد يتحرك.. وما يروعني أن خطواته تتجه نحوي.. جاء إليَّ أبي أنطونه وربت على كتفي ووهبني سلامه، أقصد سلام الله الذي يفوق كل عقل، المُنساب من عينواه قبل شفتاه!! كانت لحيته المنسدله في هدوء على صدره تحكي خبرة الحياة، ولكن ليست أي حياة! إنها «الله والإنسان» لقد قال لي: «أريدك أن تعود إلى غزة والشام.. أنا أعلم أنك أخذت قسطًا لا بأس منه من الحياة المسيحية على يد أرشيلاوس عميد مدرسة الإسكندرية اللاهوتية (في إتضاع نَسَبَ تلمذتي لأرشيلاوس)» وحالما هذا انتابتني حيرة وقشعريرة..

-    «أنا لم أتتلمذ بعد!»
-    «ستصير أبًا لتلاميذ كثيرين يا إيلاريون»
-    «كيف يأ ابي .. أن لم أترهب بعد.. »

فكرت للتو في الثلاثة إخوّة الذين جاءوا إليه، وأحدهم قال له «يكفيني النظر إلى وجهك يأ أبي» أدركت أن ما كنتُ أفكر فيه تجاه الرجل، ما هو إلا «سجس.. حرب تشكيك في الأب الروحي.. عجرفة»، وأدركت أن ما فيه أبي أنطونة إلا أنه يحصد ثمار جهاده الطويل في الحياة النسكية، أما أن فلم أتجند بعد..

-    «لا تُفكر كثيرًا.. لك رسالة هناك»
وهكذا أنهى حديثه معي بعدما في لمح البصر أدركت أن النعمة التي وُهِبت لأبي أنطونة بالإيمان ستعمل معي! وأن الغربة هي المُعلم الدائم للراهب، وأنها فطنة مجهولة نسعى في إدراكها.. وأن الإرشاد الروحي ليس معناه التعلق الشخصي أو الإنخراط في التمسك بشخص، ومع كامل حبي لأبي أنطونة، فالمسيح هو مَن تلتصق نفسي به، وأنطونة علامة في الطريق.. الله هو الطريق والحق والحياة.

وهكذا انطلقت أنا إيلاريون إلى مسقط رأسي فلسطين، وهناك مضيت إلى برية غزة المقفرة، التي لم تكن فقط مكانًا بلا ماء، وموضعًا غير مسلوك، بل كانت مخبأ لقطاع الطرق واللصوص حتى أن مرة داهمني اللصوص ودخلوا مغارتي، ووجدوني راكعًا اصلى، فقالوا: «ألا تخاف بأسنا وبطشنا؟» فأجابتهم بهدوئ قائلًا: «إن من لا يملك شيئًا لا يخاف بأسًا»..

لقد جاء لي كثيرون مثل أبيفانيوس اسقف سلاميس وجيروم وغيروهم  يطلبون الإرشاد، وكنت أرشد منهم لمصر حيث أنطونة وكانوا يعودون إليَّ مُحملين بالرسائل والإرشادات والنصائح، ومن إتضاعه كان يقول لهم: «لماذا تكبدتم مشقات الطريق وعندكم ابني إيلاريون الذي يمكنكم أن تنالوا منه ما تطلبونه مني». ولكني كنت حريص أشد الحرص أن أنقل حياة أنطونيوس ومسيرته لغزة والشام، حتى أنهم نسوا اسمي واطلقوني «أنطونيوس غزة والشام»
أتذكر أنه لكثرة الوفود واجهتني حروب السجس إذ كيف أجمع بين وحدتي وتلمذتي لكثيرين، وتذكرت الأيام الأولى، وقررت أن أعود لمصر لأرتشف من ذلك الرحيق السماوي أيضًا، ولكنني فور وصولي تفاجئت بنياحة أبي أنطونة منذ سنة!!

لقد حدّثت الأباء في ذلك اليوم، وقلت لهم بما يفيد أن «الإعتراف تلمذة، والتلمذة ليست أشخاص.. إن الحرب الموجهة للإعتراف هي حرب عدم تلمذة.. تمسكوا بالتلمذة لأنها المسيح. وهو قد علّمني المسيح.. التلمذة يا إخوتي ليست معناها التمرد عن الأباء أو إعلان عدم الخضوع لهم.. التلمذة هي أن نلبس المسيح منهم دون تشكيك أو عجرفة.. التلمذة هي أن نتمثل بتقواهم وإيمانهم وعزيمتهم وصبرهم الذي أراه مرسومًا على وجوهكم.. يكفيني النظر إليكم يأ ابناء أنطونة العالم كله.. »

أنطونة لم يسافر إلى غزة إنما ثمر صلواته ومطانواته وسهره وصبره وصل إلى غزة والشام.. حقًا إن التلمذة تُغيّر العالم كله وليست غزة فقط، واليوم، في ليلة أنطونيوس الكبير، ومع تلك المآسي الصعبة التي تدور في المنطقة العربية: سوريا وغزة وكل الشام القديم، هو وتلميذه إيلاريون «أنطونيوس غزة والشام» يرفعان صلواتهما ويشفعان في المنطقة أجمع، وكما حل سلام المدينة قبلًا.. سلام وجودهم وصلواتهم وجهادهم هكذا أثق الآن..
إن الكنيسة مسكونية جامعة تضم العالم كله كسفينة آمنة ترسي نحو ميناء السلام والآمان، وتذكار اباؤها هو أيضًا مُنخاس لتدعيم حفظ هذا السلام وانتشاره.. لنتذكر التاريخ ونحكم بقلب واعي أن ما تركوه وما نشروه من تعاليم يأسر العالم كله لتوضيد رِفعة الإنسان وسلامه..