القمص يوحنا نصيف
جاءت هذه الآية الجميلة ضمن كلام السيد المسيح، المُسَجَّل في إنجيل يوحنّا، وفي حواره مع اليهود، عندما أهانوه بقولهم: "ألسنا نقول حسنًا أنّك سامري وبك شيطان. أجاب يسوع: أنا ليس بي شيطان، لكنّني أُكرِم أبي وأنتم تهينونني. أنا لستُ أطلب مجدي، يوجَد مَن يطلُب ويدين.." (يو8: 48-50).
أحيانًا نتعرّض في حياتنا لمضايقات أو إهانات، بصور متنوِّعة.. والإهانة بالطبع تجرح النفس من الداخِل، لذلك فإنّ قبولها من أصعب الأمور في الحياة..
لكنّ السيّد المسيح واجه الإهانة والشتيمة، بهدوء وتعقُّل، ولم يردّ على الشرّ بالشرّ.. مع أنّه كان يعرف أيضًا ليس فقط ما يُقال في وجهه، بل أيضًا ما يُقال من ورائه في الخفاء، ومع ذلك لم ينتقم لنفسه بل قال: يوجَد مَن يطلب ويدين..!
+ الرب يسوع يعطينا درسًا هامًّا ألاّ ننتقم لأنفسنا، بل نترك الأمر لله الذي سيدين الناس بالعدل، إذ أنّ كلّ أمورهم الظاهرة والخفيّة مكشوفة أمامه.. لذلك جاءت وصيّة الإنجيل واضحة: "لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء.. لأنّه مكتوبٌ لي النقمة أنا أجازي، يقول الرب.." (رو12: 20).
+ هذه الآية تبعث الطمأنينة في نفوسنا، وتُشجِّعنا على التمسُّك بالوداعة، وعدم مقابلة الأسلوب الخشن أو الجارح بأسلوب جارح مثله، إذ يوجَد مَن يطلب ويدين.
+ أيضًا تحثّنا هذه العبارة على التخلِّي عن إدانة الناس، فهذه ليست أبدًا وظيفتنا، كما أنّنا لا نعرف ظروفهم أو دواخلهم.. بل يوجَد مَن يطلب ويدين، ودينونته عادلة، لأنّه يعلم كلّ شيء.. وفي هذا يحذِّرنا الرسول: "أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ.. أَفَتَظُنُّ هذَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تَدِينُ.. أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ؟" (رو2: 1-3).. "لاَ تَحْكُمُوا فِي شَيْءٍ قَبْلَ الْوَقْتِ، حَتَّى يَأْتِيَ الرَّبُّ الَّذِي سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ." (1كو4: 5).
+ في تحليل الكهنة، يصلّي الكاهن قبل كلّ قدّاس هذه الصلوة الجميلة: "امحُ يارب سيّئاتنا. والذين أساءوا لنا، اغفر لهم ولنا. برحمتِك يارب خلّص نفوسنا أجمعين". فالكاهن -لكي يحفظ قلبه صافيًا نقيًّا- يطلب الغفران والرحمة والخلاص للجميع، ولا يَشغل نفسه أبدًا بالإدانة، حتّى للمسيئين؛ إذ يؤمن أنّه يوجَد مَن يطلُب ويدين.
+ لا ينبغي أن ننسى أيضًا وصيّة المسيح القاطعة التي تُحَذِّرنا من خطورة دينونة الآخَرين؛ فهو الذي قال: "لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (مت7: 1-2). فالله وحده هو الذي له حقّ الدينونة؛ ومَن يريد أن ينجو من دينونته، عليه أن يبتعِد تمامًا عن إدانة الآخَرين، تاركًا الأمر للديّان العادل؛ فهو الذي سيَطلُب ويدين!
+ تحقيق العدالة يُريح الإنسان جِدًّا.. وهنا يؤكِّد لنا السيِّد المسيح أنّ العدالة ستتحقّق، فإنّه يوجَد مَن يطلُب ويدين.. ولكن ليس بالضرورة أنّ كلّ العدالة ستتحقّق هنا على الأرض، ولكنّها بالتأكيد ستُستَكمَل في السماء.. مثلما رأينا في مَثَل الغني ولعازر، عندما قال أبونا إبراهيم للغني وهو مُعَذّب في الجحيم: "اذكُر أنّك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر (استوفى) البلايا. والآن هو يتعزّى وأنت تتعذّب" (لو16: 25). فالعدالة ستتحقّق في السماء، بشكل قد لا يتصوّره أبدًا المخدوعون بمظاهر الأرض، ومحبّة السُّلطة، وأمجاد العالم الباطلة..!
+ إذا كان يوجَد مَن يطلب ويدين.. فيجب أن يضع الإنسان باستمرار مخافة الربّ في قلبه، ويُدقِّق في أقواله وأفعاله الخفيّة والظاهرة.. لأنّ كلّ كلمة بطّالة، وكل عمل هدّام، وكلّ تصرُّف غير سليم، سنُعطِي عنه حسابًا..
+ الله طويل الأناة جِدًا ويعطينا الكثير من الفُرَص للتوبة، ولكن يجب أن نفهم أنّ الفرص مهما توالت فهي محدودة، وإذا ضيّعناها سنندم في وقت لا ينفع فيه الندم، عندما نقف للحساب أمام مَن يطلب ويدين.
+ الله يطلب أن نقول كلمة حقّ، كلمة تشجيع، كلمة للبنيان، كلمة لصُنع السلام.. أمّا إذا غابت هذه النوعيّة من الكلام عن أفواهنا، فسوف نُدان على ذلك من الله الذي يَطلُب ويدين..!
+ من الأفضل لنا أن ندين أنفسنا الآن، قبل أن نُدان أمام الله.. ونرفض بقوّة الاشتراك في خطيّة إدانة الآخَرين، المُهلِكة للنفس.. أمّا إذا برّرنا أنفسنا، والتمسنا الأعذار لأخطائنا، ولم نُحاول الاعتذار وإصلاح الأخطاء، فلنَحذَر جِدًّا لِأنّه "مُخِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الْحَيِّ" (عب10: 31) الذي سيَطلُب ويدين.
القمص يوحنا نصيف
يناير 2025م