آيات عسرة الفهم
لا يزال يدور حولها سجال عقيم
وهي ظاهرة بذاتها
ماهر عزيز
جاء السيد المسيح ليؤكد أن الحياة ليست مناقضة بين الماضى والحاضر ، بل إن الحاضر هو وليد الماضى ، وإذا تركنا أنفسنا لنختصم الحاضر بالماضى فسنفقد مستقبل المصالحة والفداء .
فلقد أتى ليصادق على الماضى ويكمله ويتممه لأجل المستقبل ، وإذ أكمله وأتمه أغلقه إلي المنتهي ، وأعلن بما لا يدع مجالاً للشك أن الناموس كان أمراً حتمياً سابقاً ليأتينا هو ذاته لاحقاً بإنجيل العهد الجديد .
فلقد كان الناموس حتميا ليأتى الإنجيل فيما بعد .
كان لابد من الناموس ليأتى الإنجيل .. ولابد ألا يَنْقُضْ المسيح الناموس ليكتمل الناموس به هو ذاته ، فيتواصل فينا بالإنجيل فيما بعد ، والإنجيل الموصول فينا هو للعهد الجديد .
هنا يسجل السيد المسيح بأنه في الحاضر قد بنى عهده الجديد على الاعتراف بالماضى .. لأن هذا الماضى ببساطة شديدة هو الذى أعلن عن مجيئه ، وانتظره عبر الدهور بلهفة وترقب وأمل ، فلما جاء في ملء الزمان ، كان مجيئ السيد المسيح هو نفسه التتميم الكامل للناموس الذى وعد وأنبأ به ثم مضى بمجيئه ، وكان مجيئه كذلك هو الإعلان الكامل أيضاً للعهد الذى أطلقه جديداً في العالم لمستقبل الإيمان والحياة المقدسة فيه .. في المسيح في ذاته .. لا الحياة المكبلة في الناموس .. الناموس الذى مضى وأغلقه هو ذاته بالتمام والكمال .
"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"
نعم .. لقد أقَرَّ يسوع الناموس وأكمله .. أكمله في ذاته وبذاته ، فوضع أمام الناس محبة اللـه وليس ناموس اللـه ، وطالبهم بأن يتجاوبوا مع هذه المحبة عينها ، خاطفاً أبصارهم إلى أن هذا التجاوب يتطلب منهم أكثر جداً مما يتطلبه الناموس ، إذ هو يتطلب الحياة كلها .. فإذا كانت غاية اليهودى هي إرضاء الناموس والطقوس – كما يريد الإكليروس أن يسوقوا الشعب المسيحى – فالناموس والطقوس محدودة بحدود النواهى والفروض ، التي قد يعتليها - ويقهر الناس بها - رجال دين ابتعدوا عن الله ، بينما غاية المسيحى لن تكون أقل من عرفانه للمحبة التي مَطَالِيِبُهَا بغير حدود في الزمان والأبدية .
"مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"
فصاغها القداس الغريغورى : "أكملت ناموسك عنى" .. قاصداً : "أنت يا سيدى قد أخذت جسد بشريتى وأكملت الناموس الذى عجزت أنا أن أتممه بذاتى" ... أخذت جسدى "وأكملت ناموسك عنى" ، وأتممته إتماماً نهائياً ، وأغلقت كل مَطَالِيبَهُ القديمة !!
فقوة تصريح المسيح بأنه "لم يأت لينقض الناموس أو الأنبياء بل لِيُكَمِّل" لا ندركها حق قدرها إلا أن نفهم أن تكميل الناموس والأنبياء يعنى أمراً واحداً إلهياً هو خلاص الإنسان من الخطية والموت ، وهو الخلاص الذى ظل الناموس يدور حوله دون أن يجد مخرجاً لتكميله وإتمامه ، فأكمله يسوع وأتمه بالفداء .
فالناموس .. ووصايا الناموس .. وطقوس الناموس .. التي كانت تتطلب إتقان العبادة الحرفية ، وإنفاذ التطهيرات الشكلية ، بمنتهى الدقة والالتزام الطقسانى ، بكل دقائقه وتفاصيله الثقيلة الغليظة ، كانت تستهدف في جوهرها عبادة حقيقية بالروح والحق ، لكن الناموس عجز أن يوفيها حقها ، فجاء السيد المسيح وأغلق الناموس ، لكى بصليبه وموته وقيامته يتم تكميل ما استحال على الناموس تكميله ، بآلاف الوصايا الصغيرة الدقيقة الثقيلة الغليظة ، وبذبائح دموية متكررة تكراراً لا ينتهى أبداً ..
وهو بذلك لم يلغ / لم ينقض الناموس ، بل عمل ما عَسُرَ على الناموس عمله ، دون أن يخرج عن الهدف النهائي للناموس ، وهو عبادة اللـه بالحق .
وهكذا توقف ناموس الوصايا التي بالناموس نهائياً ، ليس عن قصور في الوصايا ، بل لأجل قصور البشرية الذى احتاج القوة والنعمة الآتية لها من فوق رأساً من رب الناموس كله .. اللـه الظاهر في الجسد .. الذى أكمل الناموس في ذاته وبذاته ليعطى العالم عهده الجديد .. وإذ أعطى العالم عهده الجديد أبطل العهد القديم بكل تَهَوُّدَاتِه القديمة إبطالاً نهائياً ..
فلا يعودن أحد بالناس بعد إلى أي شريعة يهودية ليقول بأن نير الشريعة لا يزال على رقاب المؤمنين !!
[ البقية في المقال القادم والأخير ]