عادل نعمان
..ثم تظهر لنا صورة قصر منيف فى ضاحية من ضواحى «لوس أنجلوس» نجا من الحريق الهائل الذى اكتسح ضاحية المدينة كلها، ثابت وراسخ بألوانه الزاهية وسط الركام والرماد ويبدو وكأنه قد شيدته الملائكة وحفظته من النيران ولم تمسسه يد بشر، وجدرانه من الخارج لم تلسعها النيران المشتعلة الهائجة التى اكتسحت المدينة سواه، وكانت المفاجأة حين أعلن أحد الدراويش على السوشيال ميديا أن هذا البيت هو دار لتحفيظ القرآن الكريم حفظه الله من الشرور ببركة القرآن، وتتوالى التكبيرات والتهليلات على هذه المعجزة التى دفعت الآلاف للدخول فى دين الله أفواجًا!!، فى اليوم التالى وعلى نفس الموقع يخرج علينا أحد الإخوة المسيحيين يعلن أن نفس الصورة بيت لأحد القساوسة الصالحين فى نفس المدينة وقد نجا البيت ومن فيه من الحريق ببركة الحواريين وأنصار الله.
الغريب أن القائمين على الأديان من الدراويش مصرون أشد ما يكون الإصرار على إضافة مساحيق التجميل لها، لإخفاء ما يظهر من تأثير الأحداث وتجاعيد العمر من وقت لآخر، وسرعان ما تتلاشى مجرد الاقتراب والاحتكاك فتتكشف الحقيقة، وهو أمر أصبح الوصول إليه لا يتعدى الساعات حين يُعرض على مرآة السوشيال ميديا، فنكتشف أن الصورة المتداولة قد نشرتها وكالة فرانس برس عام 2023 فى مدينة «هاواى» وليست مدينة «لوس أنجلوس» وهو بيت قديم لأحد سكان المدينة وليس مركزًا لتحفيظ القرآن الكريم أو بيتًا لأحد القساوسة، والمنزل قد نجا من حريق فى «لاهانيا جزيرة فى هاواى» بفضل التعديل الذى أجراه صاحبه حين شيد سقفه من الحديد، واستبدل السور الخشبى للمنزل بسور حجرى وانتزع الشجر من حوله كاملًا، ولهذه الأسباب نجا المنزل من الحريق وليست بركة الشيخ أو القسيس.
وكل الأديان لا تخلو من هذه الأساطير والخوارق ومحاولات كسر قوانين الطبيعة، وهى أدوات بشرية لتأكيد استمرار الاتصال بين السماء والأرض، وفرض التفسيرات الغيبية على النتائج العلمية الحديثة، وهو تحدٍّ مقصود لتغييب العقل وفرض هذا المنهج بديلًا عن المنهج العقلى، الغريب أن يتناول هؤلاء هذه الحكايات والنوادر دون تأكيد أو توثيق بين الناس وفى المنتديات، وقد تؤتى ثمارها لفترة وجيزة لدى المتلقى البسيط، وحقيقة الأمر فإن هذه الأساطير كانت متوافقة مع نشأة الأديان والرسالات، واعتبرها أهل زمانها دلائل على صدق هذه النبوات وهذه الرسالات ودليلًا يؤكد قبولها واعتمادها فساندوها وباركوها، يدعمها غياب الحقيقة العلمية وغياب العقل وكذلك الثقة المطلقة فى رجال الدين وقد كانوا رجال العلم أيضًا وليس غيرهم.
وأتعجب من إصرار هؤلاء على اتباع هذا المنهج فى وجود المرجعية العلمية وسيطرة العقل والبحث الميدانى، والترويج لهذه الخرافات والأباطيل والتى سرعان ما يُكشف زيفها وضلالها، والأمثلة كثيرة وفيرة منها هذا المثال الكذوب الذى أقسم عليه الشيخ العريفى حين أكد على نزول الملائكة فى معارك دمشق الأولى بين الجيش السورى والإرهابيين بلباسهم الأبيض وخيولهم وسيوفهم البيضاء نصرة لدين الله ورؤيتها رؤية العين، وقد كان افتراءً وتضليلًا، يماثله تمامًا ما أشيع عن نزول سيدنا جبريل إلى مسجد رابعة العدوية أثناء اعتصام رابعة الشهير، فما نزلت الملائكة فى دمشق، ولا تنزل جبريل على رابعة، ولكن زادت حيرة الناس وشكوكهم حول هذه الروايات.
أما حكاية العسل فهى تستحق الذكر، ولا أدرى كيف تم سحب الآية من جوارها وزمانها إلى غيرهما، وإلى آفات وأمراض لم تكن سببًا لنزول الآية «فيه شفاء» وتعنى بعض أمراض عصره، حتى يخرج علينا من المشايخ من يؤكد أن العسل علاج للسرطان والكبد وتصلب الشرايين والأنيميا وأمراض القولون والمعدة، وهذا إفك وتدليس، فحين روى أبوهريرة عن النبى (من لعق من العسل ثلاث غدوات كل شهر لم يصبه بلاء عظيم) كان اعتمادًا لما كان قائمًا، وعظة وإرشاد عامًا للحفاظ على الصحة والعناية بها وتحصينًا من الأمراض قالها وعمل بها من كان قبله ومن كان بعده، وليست خاصة بالنبوة، وليست علاجًا من كل هذه الأمراض، وفارق كبير بين هذا وذاك، ثم يخرج علينا من يتحفنا باكتشاف مذهل للعسل أنه يحتوى على مادة تمنع تكاثر الخلية، ولذلك يستخدم كمثبط للخلايا السرطانية، وكنا وغيرنا ندعو دائمًا هؤلاء الأفاضل أن يخرجوا علينا باسم المكتشف العبقرى، والمجلة العلمية التى نشرت هذا الاكتشاف واعتماده، فلم نسمع عن هذا الاكتشاف العلمى المذهل، ولو كان الأمر كذلك لكان لعسل النحل شأن وسعر آخر.
إن محاولات تجميل الأديان، ومحاولات كسر القواعد العلمية بهذه الادعاءات لا تخدم الأديان، بل تضعها كلها فى مجال التساؤلات المقلقة والمحيرة دون إجابة شافية، وتباعد بينها وبين الناس.
(الدولة المدنية هى الحل)
نقلا عن المصرى اليوم