أحمد الجمال
شاهدت حفل تنصيب ترامب، واستمعت لخطبته، أو بالأحرى ترجمة خطبته، كما استمعت لصلوات الإكليروس اليهودى والبروتستانتى والكاثوليكى.
وما استقر فى روعى بعد ذلك أن العالم عامة، ومنطقتنا خاصة، وبمعنى أدق، المنتمون لحضارات وأديان أخرى، ضمنها أو فى صدارتها، من حيث الاستهداف وليس من حيث التميز، حضارتنا العربية المسيحية الإسلامية، مقبلون على دورة عنيفة من محاولات التقويض الكلى، ليس بمنطق المؤامرة بقدر ما هو بمنطق الواقع الفعلى الذى يؤكد الحضور القوى والجارف للبعد الدينى المجسد فى المسيحية الصهيونية، الحاكمة عقيديًا للإدارة الأمريكية ولقطاعات عريضة من المجتمع هناك.
ووجدت ذهنى يتجه للمفكر المصرى الفذ أنور عبدالملك، خاصة كتابه «ريح الشرق»، الصادر عن دار المستقبل العربى سنة ١٩٨٣ فى القاهرة، والذى كتب مقدمته المناضل والمفكر الوطنى التليد الأستاذ فتحى رضوان. وقبل أن أستطرد فى ذكر بعض ما سطره الدكتور أنور عبدالملك، أجد نفسى من الملومين أفرادًا ومؤسسات، فى إهمالهم للبناء على إبداعات الرجل والاحتفاء به، سواء فى مئوية ميلاده حيث ولد فى يونيو ١٩٢٤، أو فى ذكرى وفاته، أو فى كل المنعطفات الفكرية والتاريخية التى نحاول أن نتبين فيها مواقع أقدامنا ورؤى أبصارنا وبصائرنا، كى نتجه الاتجاه الصحيح ووفق وعى مبنى على دراسة علمية تحول بيننا وبين تحكيم العواطف أو الديماجوجية السياسية، وربما كان الوحيد الذى كتب عنه فى مئوية ميلاده هو الزميل إبراهيم داود على صفحات الأهرام العام المنصرم ٢٠٢٤.
إن كل- بلا مبالغة- أدبيات حفل التنصيب، سواء سياسية أو إكليروسية تشير إلى توجهات لصراع تعهد الطرف الأمريكى- ممثلًا فى ترامب- إلى حتمية الانتصار الكاسح فيه وبلا رحمة أو هوادة لمن يقف فى طريقه، حتى إن تطلب الأمر الاستيلاء بالقوة على أراضٍ للغير أو حقوق مستقرة لآخرين عبر زمن طويل.
ولم تكن مفارقة أو عجيبة فى حفل التنصيب، غياب أى إشارة للمكون الإسلامى أو العربى، سواء بحضور «إكليروس» إسلامى أمريكى وإلقاء كلمة مثل الآخرين، أو بذكر هذا المكون صراحة فى كل الكلمات التى ألقيت، ولا يغنى عن ذلك الذكر كلام عام من قبيل مجتمع لا يرى الألوان، وهى عبارة جاءت على لسان ترامب، أو إشارات إلى السلام وخلافه من مضامين عامة.
وهنا وجدت لزامًا أن أشير إلى حتمية قراءة كتب أنور عبدالملك، خاصة كتاب «ريح الشرق» الذى أقتبس منه عبارات يجب ألا نفصلها عن زمنها الذى كتبت فيه، وهو ثمانينيات القرن العشرين، لكنها أرست منهجًا للتفكير مازال فى نظرى صالحًا لزماننا هذا، وأرست توجهًا أرى أنه حتمى لكى نكفل لوطننا السلامة التى نبتغيها، وبالطبع فإن أى تأصيل منهجى، وأى توجه استراتيجى لا يمكن أن يتحقق ما لم نعمل وبقوة وبقسوة على أنفسنا لكى يصبحا حقيقة واقعية قائمة، ومما قاله أنور عبدالملك أقتبس ما يلى:
«إن مرحلة تغيير العالم– سنوات التحول من ١٩٤٩ إلى ١٩٧٣ من تحرير الصين إلى حرب أكتوبر– بدأت تزلزل النظام العالم التقليدى: هيمنة الغرب على سائر حضارات وقارات العالم منذ عصر الاكتشافات البحرية فى القرن الخامس عشر حتى يالتا عام ١٩٤٥، عصر التسلط بالنار والسلاح والتقدم العلمى والمواكب للتنكر لـ«هوامش» العالم. هكذا تم تراكم «فائض القيمة التاريخى»: مرحلة «فقر الدم؟»، «الموجة الغربية» التى حاصرت تحرك الشرق ابتداءً من ضرب مرحلتى نهضة مصر أم الدنيا فى ١٨٤٠ ثم ١٩٦٧، وفى وجه هذا السيل الجارف، بدأت عملية تغيير العالم: ثورات شعوب الشرق التحريرية منذ عصر محمد على وإبراهيم، انقسام الحضارة الغربية إلى نظامين ومعسكرين متناقضين منذ ١٩١٧، ثم بدايات المرحلة الثانية للثورة الصناعية ذات البعد العلمى والتكنولوجى. من هناك كان المغزى الحضارى لمؤتمر «باندونج» فى إبريل ١٩٥٥: أول اجتماع لقادة ألوية ثورات وحروب شعوب الشرق الناهض– منذ القرن الخامس عشر- وإعلان فلسفة حضارية باسم «المبادئ الخمسة» أساس الدعوة لإقامة النظام العالمى الجديد فى عصرنا.
دائرتان حضاريتان.. الدائرة الحضارية الإسلامية الإفريقية- الآسيوية من المحيط الأطلسى إلى بحر الصين وأواسط إفريقيا، حول أمتنا العربية، ومصر قلبها الدائرة الحضارية الآسيوية، خاصة الوسطى والشرقية، ٦٠٪ من سكان المعمورة، والصين مركزها. ثم، على حدود الشرق القصوى، اليابان، أقوى ترسانة تصنيعية وتكنولوجية فاعلية وتحركا: مفتاحها البترول، مجالها القارات الثلاث، ومصرنا– وحدها– تملك، فى كلا المجالين، وسائل التأثير والترشيد والتعقيل، وفى نهاية الأمر وسائل الأمن والتأمين الفعلى لطاقات الشرق، رغم الحصار والمصاعب– المظاهر المرحلية. من هذه العناصر، إذن، تتشكل دعوة «ريح الشرق» عام ١٩٨٣، عشر سنوات بعد دعوتنا ربيع ١٩٧٣ «من أجل استراتيجية حضارية» إسهاما فى مواجهة التحدى:
- كيف تتحدد، وتتأكد، وجهة مصر، فى قلب الأمة العربية، ونهضة شعوب الشرق الحضارى؟.
- ما السبيل لكسر الانكسار، لتبديد «السراب الثقافى» الاستعمارى الغربى– الصهيونى المتنكر لخصوصيتنا، لطاقاتنا، لمكانتنا، لرسالتنا الحضارية؟.
- كيف نوسع، ونؤمن، العروة الوثقى، فى الداخل، وكذا مع أشقائنا فى الخارج، سبيلنا لتعميق وضمان فاعلية مشروعنا الحضارى، والاستراتيجية الحضارية المواكبة له، بغية الإمساك بمفاتيح «المبادرة التاريخية» فى قلب مرحلة تغيير العالم؟.
وجهة مصر، إذن، فى قلب «ريح الشرق».
نقلا عن المصرى اليوم