سمير مرقص
(١) الإمام محمد عبده: التقدم العصرى
«قيل إن أحلك ساعات الظلام هى ساعة الهزيع الأخير من الليل قبل مطلع الفجر الصادق بلحظات. ويصدق ذلك على أوقات الظلام فى عصور التاريخ، فان أظلم أوقاته لهو الوقت الذى يسبق فجر اليقظة بقليل من السنوات، ثم تأتى اليقظة بقليل من السنوات، ثم تأتى اليقظة فى حينها فإذا هى بصيص النور الأول، قبل تباشير الصباح. وعلى هذه الوترة كان القرن الثامن عشر فى الشرق العربى أحلك ساعات ليله الطويل: ليل الجهالة والجمود.. فلما طلع الفجر وأشرق من بعده النهار تيسرت الرؤية لمن يستطيعها كما تستطيع عيناه، وهذا هو الفارق بين المثقف ابن عصره فى منتصف القرن التاسع عشر وبين الجامد على قديمه قبل ذلك بخمسين أو ستين سنة. فارق بين من ينظر بعينه وبين من يتخبط فى الظلمة أو يقاد. من هؤلاء الناظرين بأعينهم إلى النور بعد منتصف القرن التاسع عشر، بل فى الطليعة من أولئك الناظرين البصراء إلى حقائق زمانهم، نابغتنا الريفى الأزهرى الذى علم اليقين، بل آمن ايمان الدين المتين، أن التقدم العصرى رهين بعلوم لنا أهملناها وهجرناها». كتب الكلمات السابقة الأستاذ «عباس محمود العقاد» فى الفصل التمهيدى: «العصر» من كتابه: «محمد عبده: عبقرى الإصلاح والتعليم» (الكتاب الأول من سلسلة أعلام العرب).

(٢) المُجدد
فى ذكرى رحيل الإمام محمد عبده الـ ١٢٠ (١٩٠٥- ٢٠٢٥) نذكره بكل تقدير لأنه طرح فقها وفكرا، أصفهما دوما بأنهما ذوو سقف عالٍ حيال قضايا وإشكاليات شديدة التعقيد، وذلك منذ وقت مبكر. والمفارقة هى عدم معرفة الكثيرين بما قدمه الرجل من اجتهادات تتعلق بالكثير من الموضوعات لم تزل محل خلاف فى وقتنا. وقد كانت هذه الاجتهادات خير معين فى كثير من الدراسات التى كتبتها وكانت محل نقاش فى أكثر من مناسبة، خاصة فيما يتعلق بثلاث مساحات إشكالية: أولا: طبيعة السلطة السياسية، وثانيا: المجال العام، وثالثا: دين الدولة. من هذه الدراسات نذكر: أولا: الأقباط والشريعة الإسلامية بين دستور الحركة الوطنية ١٩٢ ودستور ولى الأمر ١٩٧١، نشرت ضمن كتاب تأليف مشترك عنوانه: المواطنة فى مواجهة الطائفية من تحرير الدكتور عمرو الشوبكى ٢٠٠٩، وثانيا: عن قضايا المواطنين غير المسلمين الدينية والمدنية فى المجتمعات ذات الغالبية المسلمة وعن مسألة الحكم: الحالة المصرية نموذجا، قدمت إلى أعمال مؤتمر اتجاهات التجديد والإصلاح فى الفكر الإسلامى الحديث التى نظمتها مكتبة الإسكندرية عام ٢٠٠٩، وثالثا: ورقة الدين والمجتمع المدنى والمواطنة فى مصر إلى أكاديمية لوكوم بألمانيا ٢٠٠٧.

(٣) طبيعة السلطة السياسية
كان الموقف من طبيعة السلطة السياسية محسوما من قبل كل القوى الوطنية فى مصر، من واقع الخبرة على أرض الواقع، ومن واقع التطور الفقهى الذى اختبرته مصر. فلقد كان الإمام محمد عبده رافضا أن يكون نصيرا لقيام سلطة دينية فى المجتمع بأى وجه من الوجوه وفى هذا المقام كان يقول: «إنه ليس فى الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر.. وإن أصلا من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها.. وأن الحاكم مدنى من جميع الوجوه..». (يمكن مراجعة الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، تحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة، الجزء الأول، دار الشروق، ١٩٩٣، ص ١٠٦).

(٤) المجال العام
دخلت مصر القرن العشرين، والمصريون- على اختلافهم- يناضلون من أجل الاستقلال، ومن ثم التقوا معا فى المجال العام دون تمييز من أجل تحقيق هدف الاستقلال الوطنى. ومن ثم يقول الإمام: لا يمكن وصف المجال العام بأنه «ثيوكراتيك» (دينى) بحسب الإمام محمد عبده فى الأعمال الكاملة. ولا ينفى الإمام وجود السلطان الدينى والسلطة الدينية عن القيادة السياسية العليا للمجتمع فحسب، بل وينفى اعتراف الإسلام بها أو إقراره لها بالنسبة لأى مؤسسة من المؤسسات التى تمارس سلطة من السلطات. ويقول الإمام: «إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهى سلطة مدنية قدرها الشرع الإسلامى، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعى حق السيطرة على إيمان أحد، أو عبادته لربه، أو ينازعه فى طريقة نظره». (راجع الجزء الأول من الأعمال الكاملة). ووفق ما أسس له الإمام تشكلت الأحزاب المصرية المبكرة على أسس مدنية. وفى هذا السياق، نشير إلى صياغته- الإمام محمد عبده- لبرنامج الحزب الوطنى المصرى سنة ١٨٨١ مؤكدة لهذا المبدأ، إذ تنص المادة الخامسة من البرنامج على أن: «الحزب الوطنى حزب سياسى، لا دينى، (أى ليس حزبا دينيا. وليس بمعنى أنه ضد الدين، تعليق د. محمد عمارة فى الجزء الأول من الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، ص ١٠٩)، فإنه مؤلف من رجال مختلفى العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات.. وأن حقوقهم فى السياسة والشرائع متساوية، وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر». تحية للإمام محمد عبده ومن على نهجه فى ذكراه.
نقلا عن المصرى اليوم