نادر نور الدين محمد
يطلق اسم بورصة على المناطق التجارية الخاصة بالتصدير بين شركات وهيئات الدول. وعادة ما تقام البورصة لسلعة غذائية معينة فى الدولة الأعلى تصديرا وليس الأعلى إنتاجا لمنتج بعينه. أصبحت أمريكا مقرا لبورصة القمح والحبوب العالمية لتربعها على قمة الدول المصدرة للقمح بمتوسط نحو ٢٢ مليون طن سنويا، ولأنها تتحكم فى نحو ٢٨٪ من إجمالى صادرات الحبوب فى العالم (القمح والذرة والأرز والشعير والشوفان)، على الرغم من تربع الصين والهند على قمة الدول المنتجة للقمح ولكن كل منهما مكتف ذاتيا فقط وكثيرا ما يدخلون لشراء القمح عند تراجع إنتاجيتهم.

وعلى الرغم من تفوق صادرات روسيا حاليا من القمح محققة ٥٠ مليون طن سنويا وأيضا الذرة والشعير، ومطالبتها بنقل بورصة القمح والحبوب إليها، إلا أن ذلك لن يتحقق. وفى أثناء عملى فى هيئة السلع التموينية والتى أنشئت بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر فى نهايات خمسينيات القرن الماضى بغرض توفير كافة احتياجات البلاد من مختلف السلع سواء الغذائية أو غيرها بالشراء من الأسواق المحلية أو بالاستيراد وبناء على ذلك مازال يتم توريد القمح المحلى إلى وزارة التموين واستيرادها لباقى احتياجات البلاد بناء على قرار إنشاء وصلاحيات هيئة السلع التموينية التى تجاوز عدد السلع التى تستوردها سبعين سلعة، وبعضها كان لتوفير احتياجات الورش الصغيرة.

وتتولى الهيئة استيراد الغذاء بغرض توفيره لحاملى البطاقات التموينية والتى بلغت فى السابق ما يقرب من ١٧ سلعة ومنها السمن والزبدة البقرى والفول والعدس والزيت والسكر والشاى والدقيق ومختلف الاحتياجات المنزلية لمحدودى الدخل والتى تعذر للقطاع الخاص توفيرها دون مبالغة فى الأرباح لتعدد الربحية بين المستورد وتاجرى الجملة والتجزئة. وفى خلال ٥٧ عاما تكونت أجيال من الخبرات التراكمية التى درست وحددت الأماكن الأمثل لاستيراد كل سلعة ومورديها، خاصة أن الحكومات فى العالم كلة لا تقوم بتصدير أو استيراد أى سلعة وإنما القطاع الخاص والهيئات المتخصصة، بل وحتى فى الشراكات الاستراتيجية للاستثمار الزراعى فى دول الوفرة الزراعية والمائية فلا يسمح إلا للقطاع الخاص والهيئات فقط بتملك والاستثمار فى الزراعة وإنتاج الغذاء.

وتصدر البورصات العالمية يوميا الأسعار الخاصة بجميع السلع خاصة الخمس مجموعات الأساسية للغذاء والتى تضم بداخلها ٥٥ سلعة تدخل جوف جميع البشر يوميا؛ وهى مجموعات الحبوب واللحوم بمختلف أنواعها والسكر «والدهون والزيوت معا» والألبان ومنتجاتها، ويلتزم الجميع بالأسعار المعلنة بالبورصة ولا مجال للتفاوض بشأنها. تقوم الدول المستوردة للغذاء بالإعلان عالميا عن مناقصات لتوريد احتياجاتها من هذه السلع وتشترط فقط ألا يتجاوز السعر المقدم عن المعلن فى البورصة، ولا توجد أى ممارسات تجرى بعد ذلك لوكلاء الشركات العالمية المقدمة للعروض لتخفيض السعر المقدم فى المناقصة.

ولا يجوز الاعتقاد بأن الدول عالية الاستيراد ينبغى أن تفرض شروطها لأن هذه نقطة ضعف وليست ميزة، لأن البائع دائما هو من يفرض شروطه وليس المحتاج، وأن البورصة ليس مكانا للفصال بل هو شراء إلكترونى. ويجوز فى حالة الأزمات الداخلية لبعض الدول ومعاناتها من نقص حاد فى مخزونها من القمح كما فى الدول العربية أو الأرز فى الدول الآسيوية أو الذرة فى إفريقيا أن ترتضى بشراء هذه السلع بأسعار أعلى من أسعار البورصات العالمية نتيجة لاستغلال المصدرين وعلمهم بالأزمة، وأيضا استغلال مضاربى البورصات العالمية أو قيام نزاعات وحروب وأوبئة تؤثر على حرية التصدير والملاحة لأن هناك أفواها مفتوحة للبشر لا يمكنها التحمل وحكومات تخشى غضب الجائعين. ومن هنا كان فكر وجود مخزون استراتيجى من مختلف السلع الاستراتيجية يصل إلى خمسة أشهر ولا يقل عن ٧٠ يوما.

وتعتمد أغلب الدول النامية غير الخبيرة على طريقة مراقبة الأسعار فى شاشات البورصات العالمية لدخولها للشراء وأغلبهم ليس لديه دراسات توقع للأسعار ومعرفتها مسبقا. فأسعار السلع الغذائية للحبوب تعتمد بشكل أساسى على المساحات المنزرعة منها فى الدول الكبرى المصدرة لها، ثم نفس الأمر فى الدول المكتفية ذاتيا وخاصة الصين والهند والدول كثيفة السكان لأن دخول أى منها كمشتر جديد يسبب كوارث سعرية، وأخيرا المساحات المنزرعة والمحصول المتوقع فى الدول الكبرى المستوردة للقمح خاصة تلك التى فى قائمة الدول العشر الكبرى التى تتربع عليها حاليا مصر وإندونيسيا والصين والبرازيل ثم الجزائر واليمن ودول الخليج وكانت العراق.

فتراجع المساحات المنزرعة من القمح فى مصر مثلا يتسبب فى ارتفاع للأسعار وكذلك تراجع الإنتاجية بسبب اضطرابات مناخية كما أن ارتفاع الإنتاجية والمحصول فى مصر وباقى الدول المستوردة يتسبب فى تراجع الأسعار، ويعطيها القدرة على تكوين مخزون استراتيجى يكفيها لعدة أشهر انتظارا لانخفاض الأسعار. وعادة ما تتراجع أسعار الحبوب قبل حصاد المحصول الجديد حيث ترغب الدول المصدرة لها فى التخلص من بواقى المحصول القديم لأن أغلب الدول المستوردة تشترط فى مناقصاتها أن تكون الشحنات المصدرة إليها من آخر محصول وليس من محصول العام السابق والذى عادة ما يصيبه الحشرات والسوس والفطريات إذا مر عام على تخزينه.

وتضم بورصات الدول الغنية خبراء متخصصين فى الدراسة المسبقة للأسواق العالمية وكثيرا ما يوصون بخفض المساحات المنزرعة بالحبوب فى الدول المصدرة الكبرى من أجل رفع الأسعار، وأيضا من أجل إرهاق ميزانيات الدول المستوردة ودخولها فى حيز التبعية الغذائية للدول المستوردة وهو ما قل كثيرا بعد تنامى الإنتاج فى روسيا ودول البحر الأسود فى الحد من سيطرة أمريكا وكندا وأستراليا وفرنسا على الدول المستوردة.

وتصريحات هنرى كيسنجر بأن أمريكا تزرع القمح كغذاء وسلاح، وهو ما كررته أيضا روسيا وأوكرانيا فى حربهما الحالية من بيعهما للقمح للأصدقاء فقط، وما سبق أن هددت بها أمريكا مصر فى أزمة بناء السد العالى بحظر تصدير القمح إليها.

وكثيرا ما تعتمد الدول المصدرة الكبرى على جهل الدول النامية المستوردة للحبوب والغذاء فتقوم برفع الأسعار وهنا تهرع الدول المستوردة لزيادة استيرادها خوفا من ارتفاعات جديدة فى الأسعار فترتفع الأسعار فعلا نتيجة لهذا الاندفاع، ولو تعقلت هذه الدول واستمعت إلى خبرائها بالتروى والانتظار لأن هذه السلع لا تخزن كثيرا وأنها مصدر دخل للدول المصدرة لما دفعت من أموالها القليلة ثمنا لأطماع الدول الكبرى.

انتهى عصر الاكتفاء بمتابعة شاشات أسعار السلع الغذائية فى بورصاتها، وجاء زمن الدراسات المسبقة للإنتاج والصادرات والواردات المتوقعة، والعلم بأوقات انخفاض الأسعار والوقت الأمثل للشراء بالخبراء.

* كلية الزراعة جامعة القاهرة
نقلا عن المصرى اليوم