فاطمه ناعوت
إضرام النار قبل أيام في شجرة الميلاد في مدينة "السقيلبية" ذات الأغلبية المسيحية في ريف "حماة" السورية، ومن قبل تحطيم تمثال للسيدة العذراء رمز الطهر والأمومة والرحمة، والاعتداء على الكنائس والعبث بمقدسات أشقائنا المسيحيين بشكل عام، ليست إلا مراهقات رخيصة وبلطجة صبيانية تدلُّ على أرواح ضحلة لم تتربَّ على الخلق القويم، ونفوسٍ عليلة لم تتهذَّب، وقلوب مريضة لا تعرف الله ولا الدين ولا الصلاح. مثل تلك الحوادث المشينة لا تجرح مشاعر المسيحيين وحسب، بل تجرح مشاعرنا نحن المسلمين كذلك لأنها تضرب القيم الإنسانية السوية والتعاليم الدينية القويمة التي تربينا عليها
مررنا بمثال تلك السلوكات المشينة في مرحلة تنظيف مصر من دنس الإرهاب قبل عشر سنوات، والحمد لله تجاوزنا تلك المرحلة وغدت من ذكريات الماضي المؤلمة، والخوف كلُّ الخوف على سورية الحبيبة، نجّاها الله من شرور الفتن والإرهاب وطواغيت العنصريات والتطرف.
بالأمس أعلنت "دار الإفتاء المصرية" ما يلي: “يجوز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم وتقديم الهدايا لهم.” شكرًا دار الإفتاء على هذه الفتوى الطيبة، التي جاءت لتؤكد ما نفعله منذ ميلادنا، نحن أبناء الطوية السليمة، دون أن ننتظر فتوى دينية. لقد استفتينا قلوبنا، فأفتتنا بالمحبة والطيبة وحسن التعامل مع أشقاء الوطن وأشقاء الإنسانية ألم يقل الحديثُ الشريف: “استفتِ قلبَك ولو أفتاك الناس. البرُّ ما اطمأنَّت إليه النفسُ والإثمُ ما حَاكَ في النفس وتردَّدَ في الصدر وإن أَفتاكَ الناسُ وأفتوك". لقد أخبرتنا قلوبُنا أن من يحبُّ اللهَ يحبُّ جميعَ خلقه فيودّهم في لحظات الفرح ولحظات الألم: "فرحًا مع الفرحين وباكيًا مع الباكين"، وأخبرتنا قلوبُنا أن ميلاد السيد المسيح فرحٌ للبشرية جمعاء. وأخبرتنا عيوننا أن أشقاءنا المسيحيين أهلُ سلم ومحبة لم نر منهم إلا الحنو والتضام والتضحية من أجل الوطن وأبناء الوطن، فكيف لا نشاركهم فرحتهم ونبني معهم شجرات الميلاد الخضراء التي ثمارُها سلام وطفولة وبراءة، مثلما يبنون معنا فوانيس رمضان لتزيّن شوارع مصرَ في نهارات رمضان ولياليه؟! وسوف نظلُّ هكذا إلى منتهى الأيام بإذن الله.
أعيادُ الميلاد المجيد مناسبةٌ عظيمة للفرح وغسل الهموم بعد شهور العام المشحونة بالأوجاع والمحن والأحزان. وشجرة الميلاد الخضراء الموشّاة بندف الثلوج ليست إلا رمزًا نقيًّا للمحبة والسلام والتآخي بين البشر. الاحتفال بميلاد السيد المسيح، عليه وعلى أمه السلام، إنما تأكيدٌ على الفرح بميلاد الصلاح الذي جال ليصنع خيرًا، وجاء برسالة حب وسلام للبشرية جميعها، وليس لأشقائنا المسيحيين وحسب. وفي المجتمعات العربية، وخاصة في مصر وسوريا ولبنان، اعتاد المسلمون والمسيحيون التشارك في فرحة الاحتفالات بالأعياد الإسلامية والمسيحية وتقديم التهاني، وحضور الاحتفالات، وتبادل الهدايا. هذا التلاحم بين أبناء الوطن الواحد يُظهر وجهًا مشرقًا للعيش المشترك الذي يغلب فيه الاحترام والمحبة على أي اختلافات.
ما حدث في سوريا من تصرفات طائفية يُعدُّ ناقوس خطر يُذكرنا جميعًا بكارثة التطرف الفكري والديني الذي يسعى لتدمير جسور التعايش بين البشر. علينا، كأفراد ومجتمعات وحكومات، أن نرفض مثل هذه الأفعال، وأن نعمل على تعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الثقافات والأديان. علينا التأكيد الدائم، في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وفي جميع المنابر المسموعة والمرئية، على أن التلاحم بين المسيحيين والمسلمين في المناسبات الدينية والوطنية، ليس مجرد واجب اجتماعي، بل هو تجسيد لروح الأخوة الإنسانية التي يجب أن تسود للحفاظ على سلامة الأوطان والنهوض بها. فلنكن جميعًا سفراء سلام، في مواجهة كل مظاهر التطرف التي تسعى لتفريقنا.
عام ٢٠٢٠، تردد خبرٌ يقول إن البرلمان وقتئذ كان يناقشُ صكِّ قانون يقضي بالحبس عامًا وغرامة ٢٠ ألف جنيه، عقوبةً لمُطلقي فتاوى تحريم تهنئة المسيحيين في أعيادهم. ولست أدري مصير ذلك المشروع وأغلب الظن لم ير القانون النور. لكنني أتمنى أن ننزعَ من صدور أطفالنا شوكة التمييز العَقَدي والعنصرة الطائفية قبل أن تنمو وتنشب أظافرها في قلوبهم النظيفة، فتتلوث. إذا كُنّا جادين في الرغبة بالنهوض بالوطن والاستثمار في أبنائه، فعلينا أن نتوحّد حائطًا صلبًا في وجه الفُرقة والركاكات الطائفية، وإنعاش القيم والأخلاق واحترام الآخر ومناهضة الفساد والكسل والإهمال في العمل.
أحلم باليوم الذي يختفي فيه صوتُ الكراهية والعنصرية والتنمُّر والتطرف وعدم احترام الآخر العَقَدي. ونشكر الله العليّ الرحمن الرحيم، أن شهدنا في مصر انحسار تلك الأصوات الزاعقة الناعقة الباغضة التي تروم الشتات وغرس بذور الفتن والشتات. نشكر الله على خفوت وجه الطائفية المظلم في مصرنا الحبيبة، ولكننا نمسك قلوبنا خوفًا وهلعًا أن يطلَّ بوجهه الدميم في سورية الحبيبة، حماها الله من ويل الطائفية والإرهاب. عيد ميلاد مجيد وميري كريسماس على البشرية بأسرها.
نقلا عن المصري اليوم
