بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر

عندما ينظر الواقف في ساحة المهد وسط بيت لحم إلى كنيسة المهد وملحقاتها من الخارج فإنها تبدو له كحصن أو قلعة أكثر منها مكانا للعبادة . كان لهذه الكنيسة الضخمة في البداية ثلاثة مداخل ، ولكن اثنين منهما أغلقا ولم يبق سوى مدخل واحد ، وهو مدخل متواضع بالنسبة لبناء تزيد مساحته الكلية عن 12.000 متر مربع . يبلغ طول الكنيسة من الداخل 45 م ، وعرضها 26 م ، وارتفاعها 15 م ، ويعلوها سقف من خشب البلوط الإنجليزى المتين الذى أهداه الملك ادوارد الرابع للكنيسة . اما ارتفاع الباب الخارجى فلا يزيد عن 120 سنتمتراً وعرضه 78 سم فقط . كان هذا الباب أكبر حجماً بكثير في الماضى حيث بلغ ارتفاع 3 أمتار في كنيسة الإمبراطور الروماني جستينيان ، ويمكن مشاهدة القوس الأصلي له اليوم بوضوح . تم تصغير باب كنيسة المهد أول مرة في عهد الصليبيين ، ومرة أخرى في الفترة العثمانية . اختلفت الاراء في سبب تصغير حجم الباب إلى هذا الحد : يقال مثلا أن القصد من ذلك كان إجبار الجنود المماليك على الترجل عن خيولهم قبل دخول الكنيسة ، أو لإجبار جميع الزونار على الانحناء احتراماً لقدسية المكان قبل دخول الكنيسة ، ولكن الاحتمال الأقوى أن التصغير جاء لأن ساحة المهد كانت في الماضي تستخدم كسوق تجاري ، يأتي إليه الناس بحيواناتهم لبيع منتجاتهم الزراعية ، ولمنع الحيوانات السائبة في السوق من دخول الكنيسة بطريق الخطأ ، تم تصغير الباب الرئيسى .

شيدت بازيليكا المهد فوق مغارة المهد التى ولد فيها السيد المسيح حسب التقاليد المسيحية . تنقسم البازيليكا إلى صحن رئيسي وصحنين صغيرين يفصل بينهما صفان من الأعمدة الذهبية اللون ، تعلوها تيجان كورنثية جميلة . أرضية الكنيسة الأصلية مبلطة برسوم فسيفسائية جميلة من عهد الإمبراطور جستينيان ، وربما من عهد الملكة هيلانة ، ولكن الجزء الأعظم من هذه الأرضية مغطي اليوم . الجزء الوحيد المكشوف من هذه الأرضية الفسيفسائية مغطى بحماية خشبية لمنع الزوار من السير عليه وتدميره . اكتشف هذا الجزء مصادفة عام 1934 م اثناء تنفيذ عمليات ترميم وصيانة في الكنيسة .

في مقدمة المهد قرب المذبح مدخلان يؤديان عبر صفين من الأدراك الحجرية إلى المغارة التي هي عبارة عن سرداب يبلغ ارتفاعه 3 م ، وطوله 12 م ، وعرضه 3 م . وتشير نجمة بأربعة عشر رأسا إلى الموقع الذي يعتقد أن السيد المسيح ولد فيه ، وقد كتب عليها عبارة تقول : " هنا ولد يسوع المسيح لمريم العذراء " . وهناك17 قنديلاً مضاءة بالزيت تنير المكان ليلا ونهاراً . وضعت النجمة الأصلية هنا من قبل الكنيسة الكاثوليكية عام 1717 م ولكنها أزيلت على يد الكنيسة الأرثوذكسية عام 1847 م ، واستبدلتها الحكومة العثمانية عام 1853 م . وهناك مغارة صغيرة أخرى على يسار مغارة المهد تسمى مصلى المذود .

تعود قصة بناء المهد إلى زمن الإمبراطور الروماني هادريان ، الذي بني معبداً وثنياً للإله الروماني أدونيس فوق مغارة المهد في القرن الثاني ، ليقضى على عادة الحج التى بدأها المسيحيون الأوائل للمكان . وبدلاً من أن ينجح هذا الإمبراطور في إسدال ستار النسيان على قصة ميلاد السيد المسيح في هذه المغارة ، ساهم في اعتماد المسيحيين لهذا المكان كمكان مقدس . وفعلاً استبدل المعبد الروماني بكنيسة مسيحية عندما وحد قسطنطين الإمبراطورية الرومانية تحت الديانة المسيحية في القرن الرابع . بدأت الملكة هيلانة بناء البازيليكا فوق مغارة المهد عام 326 م ، ولكن السامريين دمروها أثناء ثورتهم ضد الرومان عام 529 م ، فأعاد الإمبراطور جستينيان ترميمها ، وأمر ببناء كنيسة هيلانة الأصلية بصورة أكبر وأجمل وأبهي مما كانت عليه ، وكبناء لا يعادله بناء أية كنيسة أخري في الأراضى المقدسة .

تعد كنيسة المهد من أقدم الكنائس في العالم ، ولو أنها ليست الأجمل . دمرت الكنيسة الأولي التى بنتها هيلانة أول مرة بسبب الزلزال ، ثم دمرت مرة أخري في ثورة السامريين ، ولكنها نجت من الهدم على يد الفرس الذين غزوا فلسطين عام 614 م ودمروا الكثير من الأديرة والكنائس . يعتقد أن الفرس لم يدمروا المهد بسبب الرسوم على جدرانها والتى صورت حكماء الشرق الذين جاءوا لرؤية الطفل يسوع وتقديم الهدايا له في قصة الميلاد بالزى الفارسي ، هذه الرسوم الفسيفسائية لم تكتشف إلا عام 1933 م ، ولكنها تلاشت مع الأيام . أعاد الصليبيون ترميم الكنيسة بين سنتي 11165 0 1169 م . وتدل الرسوم الفسيسفائية الموجودة على الجدران ، والتي تعود لهذه الفترة ، على عظمة وجمال الكنيسة في ذلك الوقت . أعيد ترميم الكنيسة مرة أخرى في القرن الخامس عشر ، ولكنها أهملت بعد ذلك ، وانتزع العثمانيون بعض رخام الكنيسة المهجورة في القرن السابع عشر ، وانتزعوا الرصاص منها في القرن التاسع عشر . أدت الخلافات حلو إدارة أمور الكنيسة وملكيتها إلى خلافات وحروب عدة بين القوى الدولية المختلفة ، ومن هذه الحروب ، حرب القرم بين روسيا القيصرية وفرنسا عام 1852 م ، عندما أعلن نابليون الثالث ، الذى اعتبر نفسه وريثاً للملك الصليبي لويس التاسع ، أن الكنيسة وما حولها ملك لفرنسا . وتنازع في ذلك مع روسيا القيصرية التى كانت أيدت حقوق الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية في المهد . واليوم يسيطر الروم الأرثوذكس على الجزء الأكبر من المهد ، في حين يسيطر الأرمن على الحنية الشمالية ، التى لهم فيها هيكلين ، والكاثوليك ( اللاتين ) لهم السيطرة على كنيسة القديسة كاترين ومغارة جيروم . أما مغارة الميلاد فهي مشتركة للجميع .