د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك
قد بدأ هذا النّقاشُ على صفحات الفيسبوك بمناجاة لـ"دَمع" مريم من الطّرف الأوّل الكاثوليكيّ، فتداخلت أطراف أخرى غير كاثوليكيّة متسائلة حول مضمون هذه المناجاة وأبعادها؛ وتطوّر النّقاش إلى أمور أخرى متعلّقة بالعذراء مريم. وأعرض هنا محتوى النّقاش دون تغيير في أراء أصحابه وصيغهم (سواء بالفصحى أو العاميّة المصريّة).

+ الطّرف الأوّل: انظر أيّها الدّمع الحزين ذاك الدّم النّازف مِن جرح البشريّة العميق،
فلا تتوقّف، لأنّه لا خلاص ولا مناص لهذا العالم الدّامي إلّا دَم يسوع وإياك!

+ الطّرف الثّاني: يعني إيه دم يسوع وإياك
الجملة دي مستفزة

+ الطّرف الأوّل: شكرًا للسؤال. يُقصد بلفظة "إياك" هنا دمع العذراء مريم. وعندما يقال "دمع" مريم أو إنها "تبكي" في السّماء، فينبغي فهم هذا بشكل تصوريّ ومجازيّ، لا حرفيّ. فإذا قلنا إن الله "يبكي" على أولاده، هل يعني هذا أن الله حرفيًّا وماديًّا له عينان، ويزرف الدّموع؟ بالطبع لا، إنما هي تعبيرات مجازيّة عن مواقف وعواطف ومشاعر حقيقيّة مملؤة بالحب والحنان تجاه البشر. والعذراء مريم هي أمّ مختبرة للأحزان والأوجاع (راجع لو ٢؛ يو ١٩؛ رؤ ١٢).
وأمّا عن اعتقادنا بدور "دمع مريم" في نجاة العالم وخلاصه، فهو مرتبط ارتباطًا جوهريًّا بدم ابنها يسوع المسيح (والدم هنا ليس الدم في حد ذاته، وإنما عطاء يسوع وتضحيّته). وليس ثمّة أمٌّ طبيعيّة وسليمة وعاقلة وطيبة ومُحبّة لا تشارك ابنها حياته ورسالته، وتسعى إلى إنجاحهما!

+ الطّرف الثّاني: كلام فلسفي عاطفي يخاطب المشاعر وغير كتابي
مع كامل احترامي

+ الطّرف الأوّل: لا بأس؛ ومع احترامي الشديد، أطرح عليك بعض التساؤلات:
1. هل ثمّة موضع كتابيّ ضد هذا الكلام ويناقضه، أم هذا الكلام يتماشى أيضًا مع روح الكِتاب المقدّس بشأن العذراء مريم؟
2. هل من عيبٍ في أن يكون كلامنا "فلسفيًّا وعاطفيًّا يخاطب المشاعر"؟ هل كلام الكِتاب المقدّس كلّه مجرّد كلام "عقلانيّ"؟ أليس الكِتاب المقدّس أيضًا "كلام فلسفيّ وعاطفيّ يخاطب المشاعر" (راجع سفر "نشيد الأنشاد")، وإن كان لا يقتصر على هذا فقط؟
3. هل إيماننا المسيحيّ كلّه "عقلانيّ" فحسب؟ ألا يخاطب الإيمانُ الإنسانَ بكل مكوّناته وحواسه؟

+ الطّرف الثّالث: دكتور أشرف من تقصد بكلمة وإياك

+ الطّرف الأوّل: يُقصد بلفظة "إياك" هنا دمع العذراء مريم

+ الطّرف الثّالث: يعنى العذراء شريكة فى الخلاص
 
- الطّرف الأوّل: ماذا تقصد بجملة "شريكة في الخلاص"؟

- الطّرف الثّالث: شريكة فى الخلاص واضحة فى منشور حضرتك
لأنه لا خلاص ولا مناص لهذا العالم الدامى إلا دم يسوع وإياك

+ الطّرف الأوّل: قصدي في هذه المناجاة‏ نجاة "العالم الدامي"، ونجاتنا من الحروب المشتعلة في أماكن كثيرة.
فكيف تفهم حضرتك تعبير "شريكة في الخلاص"؟ هذا هو ما أريد معرفته.

+ الطّرف الرّابع: يعني إيه إياك ياريت توضيح يعني العذراء شريكه في الخلاص

+ الطّرف الأوّل: حتى لا نكرّر الكلام، أرجو قراءة التعليقات السابقة. وأُضيف فقط ما يلي: بقولها "نَعَم" (راجع لو ١/ ٣٨)، وبتقديم ذاتها كليًّا للربّ، قد تعاونت وساهمت معه وتحت أمره، وبنعمته، في عمل المسيح الخلاصيّ. وكما يقول آباء الكنيسة "على يد حواء كان الموت، وبمريم كانت الحياة".

+ الطّرف الرّابع: ده كلام غير كتابي وليس له دليل واحد من الكتاب

+ الطّرف الأوّل: الأخ العزيز، في كلامي، ما هي النّقطة بالتحديد التي تعتبرها غير كتابيّة وليس لها "دليل واحد"؟ حتى أفهم ما هو الاعتراض المحوريّ.

+ الطّرف الرّابع: من كلام حضرتك إن العذراء مريم مساهمة في الخلاص هات
دليل من الكتاب علي كلامك لومجبتش دليل يبقي كلامك كلام ملهوش معني

+ الطّرف الأوّل: الأخ العزيز، هذا هو ردّي، وإن كان طويلًا نوعًا ما:
1. عندما تطالب بـ"هات دليل من الكتاب علي كلامك"، أشعر بأن مفهوم الوحي الإلهيّ مسيحيًّا مغلوط عندك. فنحن كمسيحيّين لسنا "أهل كتاب"، و"كلمة الله" بالنسبة لنا هي ابن الله المتجسّد، قبل أن تكون كلمات متساقطة من السّماء نأخذها بحرفيّتها. نحن نؤمن بأن الله قد كلّمنا في ابنه المتجسّد (راجع عب 1/ 1-3)، قبل أن يكلّمنا في "كتاب". وليس عندنا موضوع "التنزيل"، وإنّما "إلهام إلهيّ"، وعلينا تأويله وتفسيره (التّفسيرات العديدة للكتاب المقدّس).
2. بالنسبة لنا يسوع المسيح هو المخلّص والوسيط بين الله والنّاس (راجع رسل 4/ 12؛ 1 تي 2/ 5)، أي أنه " لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ ". ولكنّني أخشى أنّك تحصر عمله الخلاصيّ في الموت على الصّليب فقط.

3. أمر الخلاص منوطٌ ومرتبط بالمسيح، ولكنّه لا يلغي مشاركة الخليقة والبشر والكنيسة والمؤمنين في عمله الخلاصي؛ فالخلائق جميعها مشاركة في عمل الخلاص والفداء، كلّ على طريقته.

4.  إنّ المسيح هو الفادي والمخلّص للعذراء مريم أيضًا، لأنّها في نهاية المطاف هي بشر مثلنا وخليقة الله، وليست "إلهة"، وإن كانت "والدة الله" أيضًا.
5. بحسب الأناجيل، قد لعبت العذراء مريم، "أمّ يسوع" و"أمّ الرّبّ"، دورًا هامًّا وفريدًا في عمل ابنها الخلاصيّ، منذ الحبل به وحتى صعوده، ولا زالت أيضًا، ليس لأنها "مُخلِّصة" معه وبجواره، وإنّما لأنّها قد تعاونت وساهمت معه في تحقيق عمله الخلاصيّ بإيمانها ورجائها ومحبّتها وطاعتها واتّباعها له حتى أقدام الصليب وما يليه.

6. قال بولسُ الرسول: «فكان لنا فيه الفداء وغفران الخطايا (...) يسرني الآن ما أعاني لأجلكم فأتم في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة، لأني صرت خادما لها بحسب التدبير الإلهي الذي وكل إلي من أجلكم، وهو أن أتم التبشير بكلمة الله» (كو 1/ 14 و24-25). هل تفهم ماذا يقصد بولسُ بعبارة "فأتم في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة"؟ وهل "شدائد المسيح" ناقصة؟ أليس هو إتمام وتكميل؟

7. ما قامت به العذراء مريم، ولا زالت تقوم به، ينبغي أن يقوم به كلّ مسيحي صادق أيضًا، أي أن يتعاون مع المسيح في خلاص البشرية بالطريقة التي يريدها الرب له.

+ الطّرف الثّاني: مافيش وجه للمقارنة يا دكتور والإنجيل لم يذكر شئ عن دمع مريم أو غير مريم .. والكتاب قال دم المسيح يطهرنا .. ولم يذكر دمع مريم .. خلينا محصورين فقط في أقوال الكتاب لأنها اثبت

+ الطّرف الأوّل: بغض النّظر عن الحرفيّة في فهم نصوص الكتاب المقدّس، التي لا تخلو أبدًا من إشكاليّات معقدّة، وبالإضافة لما قلنا إياه سابقًا، أضيف أمرين بشأن دمع العذراء مريم:

1. دمع مريم التّاريخيّ (سابقًا): ما معنى هذه العبارة «وأنتِ سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة» (لو ٢/ ٣٥)؟ وهل يمكن لأحدٍ أن ينكر إمكانيّة بكاء العذراء مريم –كأيّ أمّ طبيعيّة– على ابنها في أثناه حياته الأرضيّة؟ فمثلًا، هل يُعقل أنّها لم تبكي عندما ضاع منها أثناء زيارة أورشليم (راجع لو ٢/ ٤١-٥٢)؟ وهل لم تبكيه عندما كان معلّقًا على الصّليب (راجع يو ١٩/ ٢٥)؟
2. دمع مريم المجازيّ (حاليًا): أرجو مراجعة ما عرضتُه في تعليقات سابقة، حتى لا أكرّر الكلام.

ولديّ سؤال أخير: لماذا كلّ هذا الرّفض غير الطبيعيّ للعذراء مريم، التي بفضلها تجسّد ابنُ الله، ويكمن دورها الأساسيّ في أنّها تقرّبنا من ابنها (راجع يو ٢/ ٥)؟ لماذا يصرّ بعضهمُ على مسيحيّة بدون العذراء مريم؟

+ الطّرف الثاني: وأنا من جهتي .. لماذا الاصرار علي دمج مريم واشراكها في الخلاص. لا جدال في طوباوية القديسة العذراء مريم .. لكن لماذا هي بالذات رغم أنها حلقة مثل حلقات كثيرة في تدبير الخلاص كل أنبياء ورموز العهد القديم حلقات دبرها الله من أجل إتمام الخلاص أيضا كل التلاميذ والرسل حلقات أيضا .. وبمراجعة الأناجيل والرسائل لا نجد دور لمريم في الكرازة مثل بطرس وبولس مثلا ولا نجد لها رسالة أو إنجيل رغم إننا نجد ليعقوب أخو الرب رسالة .. أرجو لا نزايد علي المكتوب يادكتور والوحي يكفي لنا علي ما أراد الروح القدس أن يعلمنا
لا ننكر قدسية مريم وتستحق تطويبنا لها لا أكثر ولا أقل

+ الطّرف الأوّل: نعود مرّة أخرى إلى التّساؤل حول ماذا يُفهم بإشراك العذراء مريم في الخلاص؟ هل لاحظتَ أنّك تتكلّم عن "تدبير الخلاص"، فتقول "كل أنبياء ورموز العهد القديم حلقات دبرها الله من أجل إتمام الخلاص أيضا كل التلاميذ والرسل..."؟ فلماذا إذًا إنكار أنّ العذراء مريم مساهمةٌ ومتعاونة في الخلاص؟ وإذا رجعتَ لتعليقاتي السابقة، ستجد أنّني ذكرتُ مثال بولس الرّسول أيضًا (راجع كو ١/ ٢٤-٢٥)؛ فنحن لا نقول إطلاقًا إنّها "هي بالذات" فقط؟ ومن ناحية أخرى، الكرازة تعني التّبشير بابن الله المصلوب القائم، ومَن هو هذا الشّخص؟ أليس المولود من العذراء مريم، التي هي "أمّ الرّبّ"؟ هل مِن كرامة أكثر من الحبل بالكلمة وولدتها، كما فعلت العذراء مريم؟ ألا تكفيها كرامة أنّها "أمّ الكلمة"؟ وحقًّا هي لم تكتب أيّ رسالة أو إنجيل، على غرار ابنها يسوع أيضًا، لأنّهما هما ذاتهما الرّسالة والإنجيل (أي البشارة السّارة)؟

وأخيرًا، نحن "لا نزايد على المكتوب"، وإنّما نحاول تأويل النّصوص بمعاونة الرّوح القدس ذاته، فهو يعلّمنا "جميع الأشياء" ويذكّرنا بجميع ما قاله يسوع لنا (راجع يو ١٤/ ٢٦). ومن فضلك، قل لي كيف تطوّب (راجع لو ١/ ٤٨) الكنائس غير التّقليديّة العذراء مريم؟

+ الطّرف الأوّل: «يا قدّيسة مريم، يا والدةَ الله، علّمينا أن نؤمن، أن نرجو وأن نحبّ معكِ. أرشدينا الطريقَ نحوَ ملكوتِهِ! يا نجمةَ البحرِ، أشرقي علينا وسيري أمامَنا في الدرب!» (البابا بِنِديكْتُس السّادس عشر).