د. منى نوال حلمى
فى أقسى تجليات الظروف الاقتصادية لا أعتقد أن أزمتنا الحقيقية هى الارتفاع فى «الأسعار»، ولكن فى انخفاض «الثقافة».

الجميع يشكون، بنبرة متشابهة الاستياء والحسرة، أن دخول اللحم والفراخ والبيض، إلى البيت، أصبح من «الممنوعات»، أو «المحظورات».

لا أسمع أحدًا يشكو عدم دخول «الوجبات» الثقافية، ومنع أو حظر «السُعرات» الثقافية، الضرورية لتحقيق «النمو» الحضارى.

تميزت مصر بملامحها «المصرية»، و«جيناتها» المصرية، و«دمها» المصرى، التى جعلتها بلا منازع، أو منافس، أو شبيه، أو بديل، «الوردة» بين جيرانها.

مصر «الوردة» الرائدة، التى تكتب وتقرأ وتغنى وترقص، وتنحت وتلون، وتخترع وتكتشف، تبنى وتعمر، تزرع وتتخيل.

على مدى تاريخها، لم تنطفئ مصابيح الثقافة المصرية، وإشعاعها على المنطقة.

ما نسميها «القوة الناعمة» من ثقافة وآداب وفنون- كانت «الحصان الرابح»، الأصيل، الرشيق، يحمل مصر، ويقفز بها، من حاجز إلى آخر.

فى أحلك اللحظات، لم يضل الحصان، لم يفقد الصهيل والرشاقة.

وارد جدًّا أن يختلف كثيرون معى. لكننى سأظل على قناعتى بأن أزمتنا اليوم، هى أزمة «ثقافية»، وليست أزمة «اقتصادية».

أعتقد أن هزيمة ١٩٦٧ كانت بداية التراجع الثقافى لمصر، حيث خطط الأسلمة الممنهجة، الطامحة للحكم، من الإخوان المسلمين، ومفرخة الإسلام السياسى، بدعم وتمويل خارجى.

وعلى مدى أكثر من نصف قرن، لبس الشعب المصرى ثوبًا غريبًا عنه، أضيق من مقاسه، اختنق بخيوطه الرملية الخشنة. ضاعت النسخة المصرية من الإسلام، المسالم، النابع من سخاء النيل، والزراعة، المحب للحياة والنساء والفرح والفن. ووقعنا تحت احتلال النسخة المتجهمة، العنيفة، الذكورية.

وانتصرت «ثقافة الموت» وحضارة البعير والماعز والصبار، على «ثقافة الحياة»، وحضارة الفروسية والورد والصهيل.

ولمواجهة هذا «الاختراق» الثقافى، يجب تكثيف العمل «ثقافيًّا» من كل مؤسسات الدولة، لدحض الثقافة المستوردة، وفضح أهدافها.

بكل أسف، نحن لا نهتم بالثقافة، ولا نعطيها أى أهمية، وهى ليست أولوية، ولم توضع أبدًا، فى خانة الضرورات الحضارية. وهذا فى حد ذاته، أحد مظاهر الاعتلال الثقافى.

نجن أبعد ما نكون عن «الثقافة» التى تبنى الإنسان، وتكون حائط الصد لمحاولات الاختراق، وتقوى جهاز المناعة الحضارية، وتقوم أولًا بأول بتطهير وغربلة وتنظيف التربة الثقافية.

كل ما لدينا هو «أنشطة أو فعاليات ثقافية»، مثل إقامة المهرجانات، والمؤتمرات، والمعارض، والحفلات، والمسابقات، حيث يجلس بعض الناس للمشاهدة، والتصفيق. لكن ليس لدينا «ثقافة». والفارق كبير كالفرق بين حبات الرمال، والجبال.

«الثقافة» خريطة شاملة متكاملة، لها فلسفة واضحة، وخطط صارمة للتغيير الحضارى، تدخل فى مناهج التعليم ومقرراته، وبرامج الإعلام ووسائل الترفيه، ونشر المؤلفات الروائية والشِعرية، وترجمة الكتب فى كافة التخصصات، وإنتاج الأفلام السينمائية، والمسرحيات والأغانى. حتى الإعلانات عن المنتجات والسلع، والملصقات فى الشوارع، تتم وفقًا لهذه الخريطة، لضمان التنسيق، والهارمونى، والدقة، بين كل أعضاء «الجوقة» الحضارية.

«الثقافة» تتحدى المفاهيم الثقافية المعيبة السائدة، مثل ربط الشرف بغشاء البكارة، «جرائم الشرف» وسلطة الرجال المطلقة على النساء قبل الزواج وبعده، وأن الدين هو مصدر الأخلاق، وانتهاك خصوصيات الآخرين، وازدواجية المقاييس بين الناس، وترك التكاثر دون ضوابط.

هل يُعقل أننا وصلنا إلى القرن الواحد والعشرين، ولم نجدد «الهواء الثقافى» الذى نتنفسه، وأننا مازلنا فى خصام مع «بديهيات ثقافية»، حسمتها البشرية منذ زمن بعيد؟.

الثقافة ليست «سِلعة» للاستهلاك، وليست «وظيفة»، وليست «دواوين» حكومية متضخمة بالأوراق والأختام.

الثقافة «رؤية» للانتقال إلى درجة أعلى، من السُلم الحضارى. وليست «تركة» ثابتة جامدة، نلقيها فى المتاحف المغلقة، ونورثها للأجيال المتعاقبة.

«الحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا»، هو الوجه الآخر حرفيًّا، للموت، والسكن داخل القبور.

الثقافة فى كلمتين هى «تغيير» الوعى، وليست «مواكبة» الوعى.

هنا أتذكر الفيلسوف والسياسى والكاتب الإيطالى، أنطونيو جرامشى ٢٢ يناير ١٨٩١ – ٢٧ إبريل ١٩٣٧، حينما تبنى نظرية «المثقف العضوى»، الذى يعتبر الثقافة «وسيلة» للتغيير وخلقًا وإبداعًا لآفاق جديدة وليست «غاية» فى حد ذاتها.

«جرامشى» يرى هذا الوضع تقصيرًا جسيما غير مُبرر، من المثقف. أنا أراه نوعًا من «الخيانة» للوطن.

■ ■ ■

خِتامه شِعر

لا تخافى

ولا تقفى فى المنتصف

كونى نفسك

لا تميلى إلى طرف

سترجع دقات القلب

مثلما كانت زمان

والنهر عائد لمجراه

مهما تاه وانحرف
نقلا عن المصرى اليوم