القمص يوحنا نصيف
    نعيِّد اليوم بالتذكار الثامن والعشرين لنياحة أب عملاق من أعظم الآباء الذين أنجبتهم كنيستنا القبطية الأرثوذكسية، وأحد أكبر رجال النسك في هذا الجيل.. وهو نيافة الحبر الجليل مُثَلّث الطوبى والرحمات الأنبا مينا آفا مينا أسقف ورئيس دير مارمينا العامر بمريوط..

    هذا الرجل الذي لم يكفّ عن الصلاة طوال حياته بشكل لم نَرَ له مثيلاً، فقد كان هو عمله الأول والأخير الذي لم يملّ منه لحظة واحدة.. لدرجة أنّه في أيام مرضه الأخير كان يبذل مجهودًا شاقًّا جدًا في النطق بكلمات الصلاة والدعاء، ولكنّه في كلّ هذا لم يعتذِر عن الصلاة، ولم يردّ أحدًا دون أن يباركه بصلاة خاصة ويعزّيه بدعائه لأجله..

    سمح الله لضعفي أن أقترب منه لعِدّة سنوات في الثمانينيّات من القرن الماضي، فقد كنت أذهب مع أحد الأصدقاء المباركين في سيّارته الخاصّة لحضور القدّاس الإلهي أسبوعيًّا كلّ يوم أربعاء معه، وكان القدّاس يبدأ في حوالي الرابعة والنصف بعد الظهر، وينتهي في السابعة والربع مساءً.. وكان أنبا مينا يصلّي ككاهن خديم بمفرده، ومعه فقط مجموعة من الرهبان كشمامسة، فهو لم يَرسِم أيّ راهبٍ كاهنًا طوال مدّة حبريّته كأسقف للدير منذ عام 1980 وحتّى نياحته في عام 1996م..

    وأيضًا أخذت بركة الاعتراف عليه عندما كان أب اعترافي "أبونا تادرس يعقوب" مسافرًا خارج مصر، في المدّة من منتصف عام 1986 حتّى يناير 1988م. ولي ذكريات جميلة مع نيافته..

    في هذا المقال، سأذكر فقط واقعة واحدة لن تغيب عن ذاكرتي مَدَى الحياة..
    سمح الله أن آخذ بركة الصلاة مع نيافته في ليلة عيد الغطاس عام 1986.. بدأ القداس بعد منتصف الليل بحوالي ساعتين، وانتهى في تمام الساعة السابعة وعشر دقائق صباحًا..! وطوال القداس كان أنبا مينا آفا مينا واقفًا يصلّي بحرارة ولجاجة، حتى أنّه مع مرور الوقت بدأ الكثير من الرهبان الحاضرين يتساقطون من التعب ما بين راكعٍ وجالسٍ وساجدٍ.. وكانوا كلّهم من الشباب، بينما هو الشيخ الذي يناهز الثالثة والستين في ذلك الوقت واقفًا يشفع في العالم كلّه ويصلِّي: "جيه ناي نان إفنوتي بين سوتير.. ارحمنا يا الله مخلّصنا.."

    بعد القدّاس صَرَفَنا بالبركة، وعندما نزلنا من الكنيسة، وكُنّا ثلاثة علمانيين فقط على ما أذكُر، قال لنا انتظروا.. وأحضر لكلّ واحد مِنّا بعض قِطَع من الشوكولاتة وهو يقول مبتسمًا "كلّ سنة وأنتم طيبين" بحنان أبوي غامر..

    في ذلك اليوم، أحسستُ ولأول مرة في حياتي، أنّه فِعلاً بصلاة شخصٍ ما، لايزال حيًّا، يُمكِن أنّ الربّ يتحنَّن علينا ويرحمنا، ويغفر لنا خطايانا..!

    فنحن نصلِّي دائمًا في ختام مجمع التسبحة وفي مردات القداس:
   + أطلب من الرب عنّا يا أبانا القديس البطريرك أنبا..... رئيس الكهنة ليغفر لنا خطايانا.
   + أطلب من الرب عنّا يا أبانا القديس البار أنبا..... الأسقف ليغفر لنا خطايانا.

    ولكنّي لم أكُن أحسّ بجدّية هذه الطلبة أو إمكانية تحقيقها مثلما نطلب من العذراء والرسل والشهداء... وكنتُ أعتبرها فقط نوعًا من التكريم للأب البطريرك والأب الأسقف، لعلّ هذا لسبب ضعف إيماني.. لكنّني في ذلك اليوم اكتشفت وتأكدت أن هناك فِعلاً رجال يعيشون بيننا يستطيعون بصلواتهم وطلباتهم أن يجعلوا الله يتراءف علينا ويرحمنا، ويتمهّل على ضعفنا ويعطينا فُرَصًا جديدة للتوبة.. ومن أجلهم يرفع الله غضبه عن العالم كلّه.

    بصلوات أبينا المتنيح أنبا مينا آفا مينا، الشفيع الأمين في شعبه، يارب أنعم لنا بمغفرة خطايانا. آمين.
القمص يوحنا نصيف