بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
في سنة 478م قرر القديس سابا أن ينتقل إلى مغارة في وادي النار ، وسكن هناك لوحده في هذه البرية القاحلة سوى من الوحوش التي تجوبها، وهناك رسومات كثيرة للقديس سابا في مغارته هذه وبجانبه أسد رابض ينظر إلى هذا الناسك وهو يصلي، قصة الأسد الذي شارك القديس سابا في صومعته.
ولما سكن نساك آخرون في هذه المنطقة وازداد عددهم، إستدعى البطريرك سالوستيوس مار سابا إليه وطلب منه أن يكون رئيسا ومشرفا على سائر أديرة الرهبان وصوامع النساك في المنطقة فإعتذر، حينئذ أصدر إليه البطريرك أمراً دينياً يعرف ( باسم أمر الطاعة )، وبموجبه يتحتم على كل ناسك أو راهب أن يطيع رئيسه ويقبل بالأمر الصادر إليه، وهكذا، أذعن مار سابا لأمر البطريرك وقبل القيام بالمسؤولية التي أوكل بها، فكانت نتيجة هذا الأمر أن أصبح يشرف على ستة أديرة للرهبان وثلاثة مراكز للنساك بالاضافة إلى أربعة منازل لنزول الحجاج، وفي نفس الوقت اضاف رهبان القديس سابا إلى ذلك بناء ديرين وثلاث مراكز للنساك.
أما القديس سابا فقد أوجد أربعة مراكز للنساك وهي:
* المركز الكبير أقامه سنة 483م، وهو حالياً ما يعرف بدير القديس سابا.
* المركز الجديد، اقامه سنة 508م، بعض الرهبان الذين ثاروا على القديس سابا وأقاموا لهم مركزاً جديداً في المكان الذي يعرف منذ القدم حتى اليوم باسم " تقوع " غربي جبل هيرودس (الفرديس).
* مركز آخر أُقيم سنة 512م باسم الراهب هابتاستيموس. مركز جرميا سنة 531م.
* أما الأديرة فكانت أول ما عرف باسم الدير الصغير، بني في سنة 493م، على بعد كيلو مترين من دير مار سابا الكبير وقد خصص هذا الدير للرهبان والنساك المبتدئين وبعد مضي سنتين يحق لمن شاء الأنضمام إلى الدير الكبير إذا وجده رئيسه لائقا لذلك، والدير الثانى بني في سنة 492م على بعد أربعة كيلو مترات عن الدير المركزي عرف باسم دير ( Castellion ) اي أمر الدير أو رئيسه.
المبانى الحالية خارج الدير :
منذ عهد القديس سابا حتى اليوم يمنع دخول النساء إلى هذا الدير وتفيد بعض المخطوطات الكنيسة وما يرويه الأجداد عن سلفهم، كما أن أم القديس سابا زارت الأراضي المقدسة للحج ورغبت في زيارة ولدها بعد غياب ثلاثين سنة عنها، فلم يسمح لها بدخول الدير بل خرج هو إلى الخارج واستقبلها بحرارة.
يوجد خارج الدير عن يمين الداخل مبنى على مرتفع يشرف ما بداخل الدير من المبانى، يعرف هذا المكان باسم ، (برج النساء)، ويقال أن هذا البرج بني فوق المكان الذى فيه التقى القديس سابا مع والدته، وأكرمها ما أستطاع إلى ذلك سبيلا، ويوجد فوق مرتفع برج النساء، مبنى بسيط يطلق عليه برج أودكسيا وهي حاجة شهيرة زارت البلاد في القرن الرابع، وهذا المبنى البسيط عبارة عن مصلي (مكان صغير للصلاة) مكرس باسم سمعان العمودي، الذي يقال أنه قضى حياته متنسكا فوق عمود حجري.
عندما يدخل الزائر من البوابه إلى داخل ساحة الدير يشاهد أمامه مبنى صغير ثماني الأضلاع بني فوق قبر القديس سابا، ويشاهد إلى جهة الشمال الغربي كنيسة صغيرة يطلق عليها كنيسة القديس نقولا محفورة في الصخر، كانت في الأصل من بناء القديس سابا، وفي هذه الكنيسة يشاهد الزائر أكواما من جماجم النساك الذين قتلوا في العصور السابقة، كذلك يشاهد في الساحة مقبرة عصرية، وإلى الشرق من ساحة الدير تشاهد الكنيسة الكبرى مزينة برسومات القديسين، بعضها رسومات قديمة وأخرى تعود لسنة 1865م، وصورة القديس سابا تشاهد في الجانب الأيمن للكنيسة، وعلى بُعد بضعة خطوات من الكنيسة وخلايا سكن النساك، نزور مغارة القديس سابا التي أقام فيها عند قدومه لأول مرة إلى هذا المكان، وبجانبها كنيسة القديس يوحنا الدمشقي المار ذكره، ويوجد مصطبة تؤدي إلى مدخل منحدر طوله 180 مترا وفي الجانب المقابل من هذه المصطبة تشاهد المغاير التي أشغلها لأوقات طويلة في السابق عدد كبير من النساك.
مـوقـع الـديـر :
ويقع دير مارسابا في طريق منحدره وملتوية شقت في بطن سلسلة جبال شاهقة وقاحلة يخترقها أودية عميقة تنساب خلالها أمطار الشتاء المنحدرة من الجبال المحيطة حتى تصب في البحر الميت، وخلال إجتياز هذه الطريق يتمتع الزائر بمشاهد طبيعية جميلة جدا حيث يرى أمامه عن بعد أراضي واسعة قاحلة تعرف باسم "برية يوحنا المعمدان" ويسميها آخرون "صحراء يهودا"، وأمامه البحر الميت ومياه تتلألأ أنعكاس اشعة الشمس عليها، وخلف البحر الميت يشاهد جبال مؤاب تمتد من شمال مادبا حتى الكرك ووادي عربة جنوبا، وما هي إلا مسيرة عشرة كيلو مترات حتى يشاهد المرء أمامه ما يسمى منسك القديس سابا (اي مكان تنسكه)، ويسميه الناس منذ القدم دير مار سابا، ومار كلمة يونانية تعني الشخص المتعبد أو القديس.
وفي أسفل الوادي يوجد نبع ماء صغير ولكن الإعتماد الاساسي للحصول على الماء هو الأبار التي يجمع فيها مياه الأمطار، وقرب النبع توجد نخلة يفترض أن غارسها هو القديس سابا بنفسه، أنما المرجح أن النخلة الأصلية غرسها القديس سابا بنفسه، وهذه النخلة الحالية من مستنبتات النخلة الأصلية، التي غرست في هذه المنطقة، كان الدير يحوي مكتبة قيمة من مخلفات ومخطوطات النساك السابقين، نقلت إلى مكتبة دير بطريركية الروم الأرثوذكس في القدس لحفظها من السرقة أو الضياع أو التلف.
يوجد على بعد 350 مترا الجهة الشمالية الدير سابا، وعلى المنحدر الغربي من وادي النار دير صغير كرس باسم القديسة صوفيا أم القديس سابا وطبقا لتقليد قديم أن هذه القديسة كانت في السابق راهبة في دير القديسة بولا في بيت لحم، ثم نقلت رفاتها إلى هذه الكنيسة التي بنيت في سنة 657م، بينما تقليد آخر يفيد أن هذه القديسة قد دفنت في دير القديس ثيوذوسيوس (دير ابن عبيد)، كان هذا المكان يسكنه بعض الرهبان حتى سنة 1930م ثم هُجر، وحاليا تقام صلاة خاصة في هذه الكنيسة مرة واحدة في السنة في ذكرى وفاة القديسة صوفيا.
وتوفي مار سابا في ديره في الخامس من شهر كانون أول / ديسمبر سنة 532 م، عن عمر يناهز 93 عاماً، ودفن في ديره هذا ثم نقل في أوقات لاحقة إلى مدينة البندقية في إيطاليا، وفي أثناء زيارة البابا الراحل بولس السادس إلى الأراضي المقدسة في 6/1/1964م، والتقائه في القدس مع البطريرك أثيناغورس تم الاتفاق على اعادة رفات القديس سابا إلى ديره، وقد تم تنفيذ هذا الاتفاق بإرسال رفات القديس سابا إلى القدس في 26/10/1965، وإحتفل بإعادة الرفات إلى دير مار سابا في اليوم الثانى عشر من شهر تشرين الثانى / نوفمبر 1965م، كما تحتفل الكنيسة في الخامس من كانون أول والثامن عشر منه، بعيد مار سابا الراهب الذي بلغ ذروة التنسك فى الاراضى المقدسة حتى حمل أحد الأديرة اسمه إلى أيامنا.