القمص اثناسيوس فهمي جورج
سافر فجر اليوم إلى المجد أنبا داود أسقف كرسي المنصورة ، الذي ولد في٢٥ / ١ / ١٩٥٧م. كان بذرة صغيرة في كرم الرب ثم نضجت وصارت شجرة وارفة لتكون بداية لنهاية طوباوية وسعيدة ، أتقن فيها الفضيلة وعاش نذورها بكل غيرة واحتراس وبساطة قلب.
كان أيهاب نظير خليل منذ الصغر إناءً مختارًا ، ونصيبًا للرب ، اتكأ على صدره وأكل خبز ملائكته ، وارتوى بمعرفة تنقية الذهن. تربى في كنيسة "العذراء" الوجوه بشبرا وخدم في فصول التربية الكنسية ، والتحق بهندسة الفنون الجميلة قسم عمارة ، وكان موهوبًا ومبدعًا وخادمًا مميزًا في الأسر الجامعية وأنشطة أسقفية الشباب. لكنه منذ أن أكمل دراسته الجامعية فضل سكنى البرية واختار نذور التكريس الرهباني ، عاشقًا لدير بولا أول السواح ، دائم التردد عليه وعلى دير العذراء الشهير بالآبهات البراموس ، وعلى خدمة أبنية وأنشطة أسقفية الشباب في منطقة أبو تلات بالثمانينات - غرب الإسكندرية.
لكنه عندما اتخذ قرار الخروج من العالم كان متجه ناحية البرية الشرقية في البحر الأحمر ، إلَّا أن أنبا موسى أسقف الشباب دفع به إلى دير البراموس ، فترهب هناك ببرية شهيت في ٣ / ٧ / ١٩٨٩م. واستغرقت رحلة جهاده ، حياته كلها بأكملها. صان عقله متحدًا بالله كل حين ، مسترشدًا بشيوخ البرية وظلَّ هكذا مستيقظًا لرهبنته حتى أسقفيته وإلى نفسه الأخير: صلاته من نار وقلبه مستيقظ وقيثارته تعزف سرّ الإماتة اليومية. فعندما كان فتى كان هادئًا ، ولما صار شابًا كان خفيفًا عفيفًا ، وقد رايته يقفز كالغزال ، فأتى راهبًا زاهدًا عابدًا ثم أسقفًا ناسكًا يرعى القطعان بقدوته. بعيدًا عن الصخب ولذة المجد الباطل ، ولم يكن مخدوعًا أبدًا بحياة السلطة وغرور التنعم وقوات هذا الدهر.
واظب على تلاوة المزامير كسميه دواد المرنم الحلو ، تلك الوسيلة التي علمه بها الروح القدس حياة الاتكال والإخلاء والترك. مقدمًا صورة واقعية لحياة المسكنة والتجرد النادر البعيد عن الزهو والشراهة متحليًا بجوائز السكون ، غير ملتفت لمتطلبات الجسد . فصار نموذجًا لصورة المتوحد الحقيقة ، الذي نقل مغارته التي يسكنها إلى دار مطرانيته بالمنصورة المحبة للمسيح ، وهكذا صار كهنتها معه في طريقتهم ومسالكهم النشطة التي تعمل عمل الخميرة لتخمر العجين كله لكن في سكون وسكوت.
تعب كثيرًا في تعمير دير البراموس وبنى أسواره كنحميا الجديد ، باسلًا ومستبسلًا في خدمة ديره مسكن آبائه الأولين ووكيلًا أمينًا عليه ، حتى الإعياء والانصهار. اختاره البابا المتنيح أنبا شنوده الثالث نيح الله نفسه ليكون سكرتيرًا له ، في سنة ٢٠٠٢م ، ثم شرع في رسامته ليكون أسقفًا على مدينة سيدني (أستراليا) ، وكان يستعد لذلك على غير رغبته (حسبما كان يفصح لي حينئذ) ، حتى صنع الله تدابيره ليكون "موسى البرموسي" المختار أسقفًا لإيبارشية المنصورة. وهناك تسلم خدمته الأسقفية في ١٤ / ١١ / ٢٠٠٢م خلفًا لطيب الذكر المتنيح أنبا فيلبس مطران الدقهلية. ووقتها كان المتنيح أنبا بيشوي مطران دمياط نائبًا بابويًا لهذه الإيبارشية. وقد رعيَّ شعبه قرابة عشرون سنة من نوفمبر ٢٠٠٢م وحتى نوفمبر ٢٠٢٢م.
أعطاه الله أعمال معمولة بحكمة ليبنيها وينجزها وقد غربلته التجارب لكنه أقتنى بصبره ميراث القديسين ، مختبرًا للحياة النسكية ، خبيرًا في دروب الرب حاصدًا متعتها ، صائرًا حصنًا منيعًا حتى وسط هوان الجسد وضعفه. ودعته الوداع الأخير وكنت أعرف أنها آخر مرة ، في صوم السيدة العذراء "أغسطس ٢٠٢٢م" كما عودني كل عام. لكن لقائي الأخير معه كان ترتيبه وداعيًا إذ كان ثلاث مقابلات ، على مدى يومين حيث كنت أقيم كما عودني في قلاية ملاصقة لقلايته بالمطرانية التي لم يكن سراج قنديلها ينطفئ بينما سكونها يملأ الأرجاء. وأذكر أنه هو الذي رتب جلساتنا بالرغم من استعفائي لوضعه الصحي الصعب. وتحدث في لقاءنا الأخير معًا ، حديث ذكريات ومن بين ما ذكره لي ، كيف كانت آمانيه الروحية طموحة في إتجاه الوحدة بالمغارة ، وكيف أن رفقائه هناك سبقوه إلى ارتقاء مصاعد كان هو يتوق إليها؟! وأن خدمته الأسقفية حالت دون سلوك حياة الوحدة وجني مشتهيات ثمارها. فقلت له لقد دبر الله يا أبي أن تنتقل بمغارتك إلى العالم لتكون شاهدًا في مطرانيتك أن مسيحنا الفقير الأبدي لا يترك نفسه بلا شهود ، يشيرون إلى إمكانية القداسة بأعلى درجاتها حتى في وسط العالم ، وهم نماذج وعلامات إرشادية عند من يسعى لمعرفة أسراره الإلهية . وبالحق كان كل من تلاقى معه يجد مقر مطرانيته يحمل عبق التاريخ بملامحه العريقة التي ترسخ في الأذهان نموذج مطارنة الزمن الجميل ، في أثاثها وجوها وأركانها ، خاصة عندما يجد أن أسقفها ساكنها راهبًا ناسكًا لا يملك شيئًا من الغنى العالمي ، بينما يملك ما لايملكه أحد ، حيث مسيح المزود حاضرًا وساكنًا يرعى عند الظهيرة ، ويقود من يحرسون حراسات الليل.
أنبا داود كان يرتدي حلة التواضع وملابس الزهاد وسكان الجبال ، عارفًا حلاوة الضيافة ومائدته طيبة للقلب: استضاف بها ملائكة.. حوارته قليلة لكنها تصعق الشياطين لأنها بلا هوى ولا غرض. جلساته يلفها السكون وهدوء مخافة الله ، وكلماته البسيطة غير المتكلفة لها فاعليتها لأنها مؤسسة على أعماله ومظهره وعيشته. إن حديثه الأخير معي كان وداعيًا لأن سلاسل محبة عميقة وعجيبة كانت تربطنا من الثمانينات واستمرت عندما كان الراهب موسى البرموسي.. لقد ودعني أخيرًا وداع المحبة الأخوية ودّعني بخاتم الصمت وبالحديث الطويل وبالوداع المتكرر الذي احسسته وهو كان يحسه ، حتى أني تأخرت عن موعد الخدمة التي كلفني بها في كنيسة العذراء (توريل) . وذهب معي مودعًا بالرغم من حالته الصحية ، ماشيًا ليودعني حتى باب المطرانية ويلاحقني بعينيه حتى التحرك وسط استعجاب المحيطين. إنني اليوم يا آبانا البار أراك بعد أن سكت وتوقف جسدك المنهك ، أراك كفرخ النسر المحلق في الأعالي تحمل معك ثمار البر وبيدك كتاب وكالتك كعمود من دخان معطّر بالمر وباللبان وبكلّ أذرة التاجر لتجلس مع كهنة الحق السمائيّ حيث مجد إلهنا وحيث لا تقف أمامه خليقة صامتة . اذكرنا يا آبانا الحبيب وأنت الآن في موضع الشفاعة مع كل الذين تكملوا بالإيمان بالمسيح إلهنا منذ البدء.