سمير مرقص
(١) ما الفرق بين التقاسم الاستعمارى التاريخى والاستقطاع الخرائطى الراهن؟
ما إن أدركت القوى الاستعمارية التاريخية: البريطانية والفرنسية أن الجغرافيا الممتدة من شرق المتوسط إلى الخليج العربى تحتوى على وفرة نفطية كبيرة، عملت على تقاسم هذه الثروة بينهما من خلال إعادة تقسيم المنطقة فيما عرف باتفاق سايكس ــ بيكو سنة ١٩١٦. ومنذ ذلك التاريخ وهو الاتفاق الذى قسم «تركة» الدولة العثمانية بين «فرنسا وانجلترا بتوافق روسى». وكان الاتفاق، وما تلاه من اتفاقات، قد زرع الكثير من الفخاخ والألغام ما جعل المنطقة قابلة للتقسيم دوما لتيسير التقاسم دوما. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية تأكد أن واقع الثروة «الطاقوية» يفوق التقديرات الأولية التى قدرتها القوتان الاستعماريتان التاريخيتان سنة ١٩١٦. ومع مطلع القرن الواحد والعشرين أكدت التنقيبات الجيولوجية الميدانية والرقمية أن إقليم الشرق الأوسط ــ يقينا ــ يمتلك أكثر من ٦٥٪ من احتياطى النفط فى العالم، وما يزيد على نصف الاحتياطى العالمى من الغاز الطبيعى.
واكب الحقيقة العلمية الدقيقة حول الثروة النفطية ــ الغازية تحوّل فى موازين القوى العالمية والإقليمية وفتح الإقليم لتنافسات شديدة بين ثلاثة مستويات من القوى.
(٢) قوى: دولية - إقليمية.. دول محورية: ثروية - بشرية.. وقوى: لا نظامية - مرتزقة
فى الدورة الثانية من رئاسة الرئيس الأمريكى بوش الابن، تبنت الإدارة الأمريكية آنذاك سياسة خارجية تقوم على عدم تورطها فى أى أزمات يتعرض لها ما سمته المناطق الحيوية، وأن على كل منطقة حيوية أن تكون لها قوة إقليمية تهيمن عليها وتكون امتدادًا للسياسات الأمريكية فى تلك المناطق الحيوية.
وبالنسبة لإقليم الشرق الأوسط فلقد أخذت الإدارة الأمريكية بالتصور الذى أعدته ثلة من الاستراتيجيين الأمريكيين المحافظين فى تقرير رئاسى قُدِّم إلى الرئيس بوش بعنوان: (الإبحار فى العاصفة: أمريكا والشرق الأوسط فى قرن جديد Navigating Through Turbulence: America & The Middle East In A New Century)؛ وقدمته للرئيس الأمريكى بوش الابن.
وقد كان التقرير بمثابة دليل عمل تم الأخذ بكل ما ورد فيه تقريبا على مدى عقدين من الزمان (صدر عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى. ومن ضمن شاركوا قد شارك فى إعداد هذا التقرير: ألكسندر هيج، وصموئيل لويس، وجوزيف ليبرمان، شبلى تلحمى، وريتشارد بيرت، زالماى خليل زاد، وروبرت ساتلوف.. إلخ)؛ حيث أوصت- من ضمن ما أوصت به وهو خطير للغاية وكنا أشرنا له فى حينها- إلى اعتماد قوى إقليمية، يكون على رأسها: إسرائيل وتكون بمثابة ضابط الإيقاع لإدارة منطقة الشرق الأوسط الحيوية كمنطقة مضطربة zone of turbulence؛ ثم تأتى تركيا، وإيران أخذًا فى الاعتبار ألا تخرج عن السيناريو الأمريكى كذلك ضبط استخدام السلاح النووى. تمارس إسرائيل هذا الدور فى ضوء الاتفاق التاريخى غير المدون بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية الذى يضمن: أولا: ضخ الطاقة إلى ما لانهاية لاستدامة التقدم الأمريكى ــ الإسرائيلى، وثانيا: استخدام بلدان الإقليم كأسواق لتصريف المنتجات، وثالثا: ضمان الحضور فى المواقع الاستراتيجية من مطلات بحرية وممرات حيوية وغير ذلك، ورابعًا: حصار الراديكاليين العرب: القوميين، واليسار، وبالأخير حماية أمن إسرائيل قبل كل ما سبق وتعبيد الطريق كى تمارس إسرائيل ما بات يُعرف بردع التوسع.. بلغة أخرى الهيمنة على أمنهما: «الطاقوى»، والعسكرى، والاقتصادى، والتكنولوجى.. بيد أن ما أطلقنا عليه فى كتابنا: «الحماية والعقاب: الغرب والشرق الأوسط والمسألة الدينية»؛ التعاظم الأمريكى ــ الإسرائيلى قد وُوجه بتمدد روسى وصينى، كذلك تمردات ومقاومات تركية وإيرانية. كما استطاعت الدول النفطية بالمنطقة أن تكون لها مساحات حركة مستقلة بعض الشىء للتحرك الميدانى وتكوين «ظُهراء» لها بدرجة أو أخرى. ويُرجع أحد الخبراء بأن الحضور الفاعل الذى حققته شركات النفط الروسية والصينية، «يُعد ظاهرة جديدة فى الشرق الوسط». إذ انعكس من خلال «نصيب الصين الأرجح بين زبائن النفط الإيرانى، وعبر الدعم الذى تقدمه بكين لطهران.
كما يبدو ذلك مما أطلق عليه، هذا الخبير، «رقصة الخطى المترددة التى ترقصها الرياض وموسكو، وكذلك بخلق وتشكيل الأوبك +»، وهى منظمة غير رسمية، ولكنها تكون «قوية حين تتوصل إلى تحقيق تراصف أعضائها»، الذين يسيطرون على ٦٥٪ من الإنتاج العالمى من النفط، و٥٠٪ من احتياطياته. وقد أدى هذا التراصف إلى دخول ناصر ذات مصالح من منتجى النفط الآسيويين إلى قلب الإقليم ما أشعل صراعا متشابكا فى خرائط الإقليم وسريان فيروس التفكيك فيه ببعديه: الصلب والناعم.
(٣) فيروس التفكيك ــ استقطاع الخرائط: التفكيك الصلب/الناعم ــ الصراع المتشابك
فى مقال نشر مؤخرا فى جريدة الجارديان البريطانية حول التغيرات التى تطال الإقليم، قالت كاتبته إن: الإقليم يتغير بدرجة تجعل من الصعب التعرف عليه؛ وقد وصفنا هذا التغير الذى رصدناه مبكرا فى دراسة لنا نشرت فى ٢٠٠٨ «بفيروس التفكيك»؛ الذى يؤدى إلى إحداث تفكيك مادى/صلب فى أوصال الدول وإلى تفكيك ناعم يحدث تحللا من أسفل إلى أعلى فى بنى المجتمعات. لقد فتح تعدد التنافسات الضارية الباب ليس فقط بين القوى الدولية، وإنما أمام القوى الإقليمية، والدول المحورية: الثروية/البشرية، كما أتاح وجودًا وازنًا وموجهًا للفواعل اللانظامية الدينية والإثنية، كذلك للفواعل المرتزقة لتأجيج الصراعات فى الإقليم ما يعنى المزيد من «الاستقطاعات الخرائطية» ــ فصل خرائط عن أصولها ــ لصالح «الكرتلات» الاحتكارية والقوى الإمبريالية الجديدة صاحبة المصالح فيما يحدث فى الإقليم الذى ربما يصبح «أقاليم» متعددة...نواصل...
نقلا عن المصرى اليوم