منى ثابت
أول مرة فى حياتى أخرج من مشاهدة فيلم مصرى بشعور شخصى بالخزى، من كونى أعيش فى بذخ القاهرة، ثقافيًا واجتماعيًا.. وإحساس بالقلق على مصير القرويات بطلات فيلم «رفعت عينى للسماء».. بعد فوزهن بجائزة الفيلم التسجيلى الطويل بمهرجان «كان».. تسلمنها بالسواريهات، تحت أضواء العالم، وعدن نجمات ينتظرهن كهف رجال القرية المظلم!! المصادفة الغريبة أن الفيلم ظل يرفع من دور العرض فى أقل من أسبوع.. ولم أجده إلا فى قاعة شبه خالية بمول مهجور!! «سن سيتى» وهو أول مولات مصر الجديدة الفاخرة، الذى أفلس وأطفأ أنوار محلاته ومصاعده وسلالمه الكهربية إلا عن دور السينما، مكتسبًا ملامح وكر فى فيلم رعب!! خرجت منه بتماثل عكسى قبض روحى.

صبايا قرية البرشا- إحدى أفقر قرى الصعيد بالمنيا- يشاهدن الحياة على شاشة موبايل أو تليفزيون.. يتولد حلم حرية وثورة على الممنوعات!! ليس ملاذًا للبوح بالآلام وطلب النجدة إلا بيوت الله، الكنيسة والجامع.. وصايا الله حصنهم.. راعى الكنيسة يجذب الأطفال بأنشطة ثقافية تحفظ نقاءهم وضمائرهم، بديلًا عن الوعظ والترهيب.. فهم روح الدين ورسالته الإنسانية يحرر العقول، ويدعم الإرادة بشجاعة.. تتكون فرقة مسرح «بانوراما برشا» من سبع طفلات قضيتهن واحدة «الحرية».. يكتبن صور واقع حياتهن عروضًا حية صادقة، يخرجن بها للشارع لمحاكمة أهاليهم وجهًا لوجه.. مسرح طفولى برىء صريح مباشر.. بمرارة الظلم وضغط الكبت ينزعن أقنعة المتفرجين، الظالم والضحية.. يتنمر الذكور أطفالًا وشبابًا بالطوب والإهانات، لأنهم ضحايا مجتمع اعتقلهم فى صورة نمطية للرجولة سلبت منهم الإنسانية والتفرد.. أورثهم فنون استعباد الزوجة أبًا عن جد.. الزوجة الصالحة هى الأم النمطية الطيبة الجاهلة التابعة، التى تتقن فنون خدمته، وتضخيم ذاته!! مسرح أطفال يحلم بمستقبل إنسانى للطرفين.. بخيال مستمد من حكايات مدارس الأحد عن سير الشهداء أيام الاضطهاد الدينى.. يحاكمن انكسار الضحية وجبروت الضعيف، خوفًا من مصير شهداء الحق.

مسرح الشارع لمّة ورجاء.. تقرع قائدة الصبايا طبلتها تنادى أهل البرشا الكرام.. تغنى «هايدى» ويردد الكورس، لاستنهاض القرية بتراثها.. «قالوا الودع موصوف للى انشغل باله/ قلت نقرب ونشوف بختى أنا ماله/ من يوم حبيبى ما غاب والنفس مكسورة... » و«إحنا حبة صبايا واللى يعادينا مين».. عروض تطالب بحق الحب والاختيار.. التعليم قبل الزواج.. إعلان الزواج شركة مش عبودية.

تخرج الأمهات للفرجة على لهو بنات صغار، لكن أشجع منهن!!

بالصدفة يلتقين فى الشارع بالمخرجة ندى رياض، أثناء توثيقها بالكاميرا موضوعًا لمؤسسة تمكين المرأة.. بإلحاح طفولى يطلبن منها تصوير عروضهن.. تستهويها الفكرة والحماسة وتنشأ علاقة قبول مع أهل القرية تمتد سنوات، حصيلتها ٤٠٠ ساعة تصوير متقطع.. الصغيرات كبرن والماضى مستمر!! المغنية «هايدى» تعيش فى مخبأ الزوجية والأمومة، اكتفت من حلم الشهرة والألبومات بزواجها عن حب!! «مونيكا» عاشت فى وهم الحب، حتى أمرها خطيبها بمقاطعة الفرقة مهددًا «يا أنا يا المسرح»!!، خضعت شهرًا ثم أفاقت وتركته!! لكن الفرقة تفرقت.

اختفى مرح الأحلام تحت كآبة الحاضر.. أصبحن نماذج مكررة لها نفس العيون المطفأة، وبشرة بلون تراب القرية، وكيان كأسمنت حوائطها.. ملامح تنبئ بتكرار حياة كل زوجة، عبدة بجلباب يكره جسدها، ومنديل بأوية يكبل شعرها ويقمع إعلان صداع قهرها! ومصير موحد، قطيع أطفال، شابات حوامل، زوجات نازحات مع العريس للقاهرة.. هو يتحرر من رتابة القرية، ويلامس أحلامه.. وهى تخدم فى البيوت لتوفير مصروف رفاهية بطالته، يصرف مرتبها مخدرات تخفى عجزه، ينهب إعانات تكافل وكرامة!! صورة منبوذة تجدد حلم التغيير.

فيلم «ريش» للخالة دميانة فتح طريقًا إلى مهرجان «كان».. وتمكين المرأة يبدأ بتغيير ثقافة المجتمع، وهى مهمة المخرجين شريكى الإنتاج «ندى رياض» و«أيمن الأمير»، بدعم إنتاجى سعودى قطرى فرنسى.

فاز الفيلم.. بنات البرشا أصبحن «تريند» شاشات الموبايل!! عشن حياة النجوم.. فنادق، مطاردة العدسات داخل محلات أزياء الصباح والسواريه!! ماكيير وكوافير محترف.. سرن على السجادة الحمراء فى حفل ختام مهرجان «كان» وصعدن المسرح لاستلام الجائزة، حلم مشاهير نجمات العالم.. مؤتمرات صحفية.. من مطار لطائرة لمسرح، من أوروبا لأمريكا، نجمات مبهورات انبهارًا فى ديزنى!! والأمهات فى القرية توقدن الشموع، يزغردن لأنفسهن.. بنات البرشا فزن لمصر بجائزة «العين الذهبية» ولأول مرة!!

البنات رفعن رؤوسهن للسماء مثل داوود النبى «رفعت عينى إلى الجبال من حيث يأتى عونى» مزمور (١٢١).

فى ليلة وضحاها ما عدن قرويات ولا مقهورات!!

تحقق حلم التغيير الشخصى للبنات.. تكريمات رسمية، البابا تواضروس، محافظ المنيا، هيئة المسرح، سهرات تليفزيونية، مقالات.. ما عدن قرويات ولا مقهورات، حققن تانى الأحلام «الشهرة». أما ذكور القرية فقد استقبلوهن بزفة من المطار.

احتفلت بهم كنيسة البرشا، فصعدن المسرح بالدف والطبلة و«حلى شعرك يا عروسة وفرجينا عليه/ ده اللى خطبك يا عروسة الله ينور عليه/ بينى وبينك محبة وشعرى مضلل عليك».. يحتفل الكاهن بنجاحهن تأكيدًا لقناعته بأن مفتاح تغيير العقول هو الفن وليس القانون.. يقول شيخ القرية: «وما أجمل من امرأة حرة.. سيتجاهلونكن، ويسخرون منكن، ويحاربونكن، ثم تنتصرن».

فريق البرشا كسب قضية «لا لاستعباد المرأة».. ومن حلمت بدراسة الفن سافرت القاهرة وحدها، لم تشاركهن فرحة «كان» لالتزامها بامتحانات المسرح بالقاهرة.. مسجلة هدفًا منفردًا.

ونأتى للواقع.. سجل الفيلم وثيقة المهمشين لايف، أيًا كان الجزء الدرامى لاكتمال عناصره الفنية.. فقد انتزع انتباها عالميا وجوائز وشهرة للمخرجين والمنتجين وفريق العمل.. لكن يطاردنى هاجس تشاؤمى عن مصير ومستقبل بنات البرشا بعد هبوط براشوت النجومية والسواريهات فوق تراب شوارع القرية، وتحول أضواء الإعلام عنهن إلى حدث جديد.. هل يبتلعهن ظلام القرية!! هل يخلع رجال القرية أزياء زفة التحضر الإعلامى ويلقين مصير هنادى؟!! أتمنى استثمار الفيلم خريطة عمل لتمكين المرأة، خارج أرشيف الإنجازات؟

وأرفع عينى إلى السماء راجية ألا تسحبهن نداهة البيزنس!!.
نقلا عن المصرى اليوم