كمال زاخر
يشاغبنى بعض من الشباب الغيور النابض بالحيوية كلما كتبت خاطرة أو تعليقاً على واقعة أو حدث، واتذكر مع حميتهم ما كنته قبل ما يقرب من نصف قرن، وإن اختلف المناخ الثقافى الذى كان يقبل الاختلاف والتناظر بغير أن يخل بضوابط الحوار وآدابه، ربما لأن ذاك المناخ قد تشكل وجدانه وأطره بفعل كتابات وابداعات قامات فكرية وثقافية وسياسية وفنية لها ثقلها وابجدياتها الرصينة والمبدعة، وبفعل تعليم كان ينبض بالالتزام المعرفى، وجامعة تقود الشارع ويحمل شبابها نبضه ويعلنه فى حراك حيوى داخل وخارج اسوارها، قبل أن يحاصرها المد الظلامى وتياراته المتطرفة.
جرت فى مياه الحياة الشخصية والعامة مياة كثيرة، خضت فيها ونهلت منها، عذبة ومالحة، وحققت مع جيلى انتصارات وهزائم، لكنه كان جيل انكسارات بفعل تغيرات عاتية وتحالفات تتبدل وتنقلب على مدار سنوات العمر الذى امتد بى حتى اللحظة.
بلغت من العمر ارزله وأحمل على كتفى هموما ثقيلة لا تحتمل مزيد، لذلك لا افتح صفحات سبق وملأتها بالتحليل بامتداد اكثر من ثلاثة عقود، وأوجزتها فى ثلاثة كتب تركتها لمن لديه متسع للمعرفة. واشرت اليها مراراً.
لم اعد شغوفا بتكرار أو اجترار ما وثقته، أو الانتصار لأحد او الانحياز لشخوص. فقط اتابع ما يدور متقلبا بين الابتسام والحزن والقلق واكتفى بسطر هنا او كلمة هناك او رأى مقتصب فيما اصادفه من احداث، وقد يأخذنى القلم الى تحليل لأمر اراه مستحقاً، لكننى فى كل الأحوال لا اقيم من نفسى معلماً، ولا احول قلمى الى مكتب مدع عام يحمل قائمة اتهامات، وفى ضميره احكاماً سابقة الإعداد.
يكفينى انى تكلمت بما اراه حقاً حين صمت كثيرون، ولم يكن موقفاً بلا تكلفة، اديتها راضياً أنا وبيتى، ومازلنا، وفى المقابل لم تكن التعزية بقليلة، رغم غصة قلب صارت رفيقتى، أوجعته لكنها لم تستطع أن تخرجه من مدار الحب الذى اختبره فى المسيح وبه.
وحين رحل عن عالمنا اطراف المواجهة عاد قلمى الى محرابه، يشتبك مع قضايا اعادة اعمار ما تهدم لأجيال تاهت ولم تختبر عمق كنيستها التى أُختُطِفت الى دوائر الغيبيات والخوارق ودغدغة المشاعر والوعظ الاجتماعى الفاقد لحضور المسيح، ويتنازع اشباه بولس وأبولس وصفا، على الاستحواذ على الجماهير، وتئن البيوت من فراغ النعمة ومن اختبار الشركة، لذا تكتظ قاعات المحاكم بنزاعات الأسرة، وتكتظ الكنائس بالتوازى فى مفارقة تكشف ماهية العبادة وفراغها من مضمونه.
آن للمحارب أن يستريح، وللقلم أن يبرح الورق، وللفارس أن يترجل، وللأوراق أن تطوى، على أمل أن تجد يوما من يطالعها بعيون محايدة متبصرة، ويستوعب توصياتها ويترجمها، بعيداً عن ضغوط اللحظة وحساباتها، لحساب وطن وكنيسة يستحقان، ومن أجل غد أفضل يدرك الاستنارة، وانفراجة ستأتى يوماً.