منى أبوسنة
فى الآونة الأخيرة، كثر الحديث فى وسائل الإعلام والصحافة عن الإلحاد باعتباره ظاهرة اجتماعية منتشرة فى المجتمع المصرى. وفى محاولات لمعالجة تلك الظاهرة من خلال فهمها وتحليلها وتوضيحها للجماهير، يتم عن عمد أو عن عدم معرفة الخلط بين الإلحاد والعلمانية، إلى الحد الذى فيه يحاول الذين يتحدثون عن الإلحاد مساواته بالعلمانية وإقناع الجماهير بأنه لا فرق بينهما. وأنا هنا لا أتناول الإلحاد سواء كان فعلًا ظاهرة اجتماعية أو غير ذلك، بل ما يعنينى هو توضيح مفهوم العلمانية وبيان أنه لا علاقة له سواء بالإلحاد أو بالتدين.
من الشائع أن لفظ «علمانية» مرادف للإلحاد، أى أنه ضد الدين، بمعنى أن العلمانية تدعو إلى عدم الإيمان بأى دين، وتمنع أداء الشعائر الدينية سواء فى المساجد أو الكنائس، كما أنها تمنع تدريس مادة الدين فى المدارس، وكذلك تمنع بث البرامج الدينية فى الإذاعة والتليفزيون أو إذاعة تلاوة القرآن الكريم فى وسائل الإعلام، وكل هذه المحاذير المرتبطة بهذا الفهم الشائع عن العلمانية تندرج تحت ما يسمى أحيانًا فصل الدين عن الدولة، وأحيانًا فصل الدين عن المجتمع. وهذا المعنى الشائع عن العلمانية أو بالأدق الذى تمت إشاعته بين الناس من قِبَل التيارات الإسلامية السائدة مشتق من العالم أو الدنيا، وبناء عليه، فإن هذه التيارات الإسلامية تعتبر أن الاهتمام بالعالم والانغماس فى أمور الدنيا أمور محرمة، حيث إنها تؤدى بصاحبها إلى جهنم لأنها تُبعده عن الإيمان بدينه، وتُوجهه نحو هذا العالم، وتُنسيه الآخرة.
كما دأب بعض الشيوخ على استخدام لفظ علمانية كصفة للمثقفين والكُتاب والأدباء والإعلاميين الذين لا يكتبون بنكهة دينية بأنهم ملحدون وكفرة، بحيث شاع فى وعى الناس أن العلمانية هى الإلحاد، وأن العلمانى هو الملحد الكافر بالدين، ويستخدم هؤلاء الشيوخ عن عمد كلمة عِلمانية بكسر العين للإشارة إلى العلم باعتباره نشاطًا ماديًّا يستبعد كل ما هو روحانى.
والسؤال الآن: هل هذا الفهم الشائع عن العلمانية صحيح؟، وإذا لم يكن صحيحًا، فما حقيقة لفظ العلمانية، وما جذوره؟، وهل العلمانية ظاهرة غريبة ودخيلة على مجتمعنا ومُهدِّدة للدين؟.
للإجابة عن هذه الأسئلة، يلزم أولًا توضيح معنى اللفظ، أى لفظ العلمانية، فالأصل اللغوى للعلمانية واحد فى اللغة العربية، كما هو فى اللغة الأجنبية. فى اللغة العربية «عَلْمانية» (بفتح العين وسكون اللام) مشتق من علم، أى العالم، وقد أقر مجمع اللغة العربية هذا المعنى فى معجمه. وفى اللغة الأجنبية مشتق من اللفظ اللاتينى seaculum، أى عالم.
وينطوى هذا المعنى على الزمان، وهذا يعنى أن العالم متزمن بزمان، أى أن له تاريخًا، وأن هذا التاريخ يتسم بالتغير والتطور، وأن هذا التغير والتطور يحدث فى العالم، أى فى المكان، كما أنه يحدث أيضًا للعالم، أى فى الزمان، بمعنى أن التغير الذى يحدث فى العالم من أحداث من شأنه أن يُحرك الزمان ويطوره.
وهذا يعنى أن العالم ليس ثابتًا، بل هو متحرك، وهذه الحركة هى التاريخ، وحيث إن هذه الحركة تتسم بالتغير، والتغير نسبى، فإن التفكير فى مجال هذه الحركة يصبح هو الآخر نسبيًّا، بمعنى أن ما يحدث من حركة فى العالم، وللعالم، من شأنه أن يُحدث تغييرًا فى تفكير البشر الذين يعيشون فى هذا العالم.
العلمانية إذًا بهذا المعنى لفظ مرتبط بالعقل وبأسلوب التفكير فى العالم، وليس مرتبطًا بالسياسة والعمل السياسى ولا بالتدين أو عدمه. وهذا الأسلوب العلمانى فى التفكير يدور على ما هو متغير من أحداث وعلاقات بين البشر والمشكلات التى تنتج عن هذه العلاقات، أى أن العلمانية هى حالة ذهنية تتعامل مع كل ما هو نسبى من صنع البشر بأسلوب تفكير من أجل فهم أسباب المسائل النسبية وإيجاد الحلول لها بطريقة نسبية ومتغيرة. ولا يرتبط هذا المفهوم بالإيمان الدينى، أى بمجال ما هو مطلق وما هو ثابت. وبناءً على ذلك، فمن الطبيعى أن يكون لدينا شخص مؤمن بدين معين أو عقيدة معينة، وملتزم بها، وفى نفس الوقت يفكر تفكيرًا علمانيًّا فى الظواهر الاجتماعية. مثال للظواهر الاجتماعية النسبية والمتغيرة ظواهر الإلحاد، والبطالة، والانفجار السكانى، والعنف، والإدمان، والجرائم غير المسبوقة، وغياب القيم الأخلاقية الإيجابية التى تحث على العمل والإنتاج والجدية، والتفكك الأسرى، وأطفال الشوارع، والزواج العرفى، وانتشار ما يسمى دُور الأيتام، وهى فى حقيقتها ملاجئ تضم الأطفال غير الشرعيين، نتاج الزواج العرفى وخلافه.
كل هذه ظواهر اجتماعية من صنع البشر، ومَن يحاول أن يفهمها، حتى من أجل أن يتفاداها ويعيش فى أمان، لا يمكن وصفه بالملحد، حيث إنه يفكر ويفهم الظواهر النسبية بتفاصيلها النسبية، مع احتفاظه بدينه المطلق، ولا يخلط بين المجالين فى محاولة الفهم. تلك هى العلمانية على الأصالة، إذ هى حالة ذهنية وأسلوب تفكير فى الظواهر الاجتماعية والإنسانية بشروطها المتغيرة.
ونتساءل: هل يفقد المؤمن إيمانه لمجرد أنه يفكر بطريقة نسبية فى أموره النسبية، أى فى أمور حياته اليومية، من مأكل، ومشرب، ومسكن، وعمل، وتعليم، وصحة، وعلاقات إنسانية؟.
وهل التفكير بشكل نسبى، أى بشكل يتلاءم وطبيعة تلك الأمور النسبية المتغيرة، يصرف المؤمن عن الإيمان، أى عن مجال ما هو مطلق وثابت؟.
الإجابة: لن يفقد المؤمن إيمانه فى هذه الحالة، لكنه سيفقد خضوعه وانصياعه لفتاوى الشيخ، أى أنه سيتحرر من وصاية هؤلاء الشيوخ على عقله وحياته. وهنا يجب التنويه بأن هذا لا ينطبق على المسائل المتعلقة بأمور العقيدة، فمن حق المواطن، بل من واجبه، أن يستفتى المختصين فى تلك الأمور من خلال الفتاوى التى تقف عند هذا الحد ولا تتجاوزه للأمور الدنيوية.
والسؤال الآن: هل صحيح أن المؤمن الملتزم بأداء فروض دينه، والملتزم بمبادئ دينه فى المعاملات مع الناس، والذى يستخدم عقله العملى فى فهم أمور الحياة من سياسة واقتصاد وعلاقات إنسانية، ويكتشف بنفسه الحلول العملية لتطوير أحواله المعيشية، يتفق مع قوانين وقواعد المجتمع أنه يصبح فى هذه الحالة كافرًا وخارجًا على دينه؟.
الجواب: بالنفى، لن تتغير درجة إيمان هذا الشخص، لكن سيتغير وعيه بقدرته العقلية، وهذا الوعى سيُحرك رغبته فى المشاركة فى تغيير أحواله المعيشية وأحوال مَن حوله. هذه الرغبة ستولد لديه إرادة المشاركة فى الحياة العامة، وهذه أولى خطوات الوعى بالمشاركة السياسية، وهو أمر ممتنع حتى الآن.
نقلا عن المصرى اليوم