كمال زاخر
الأربعاء ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٤

اعزائى الشباب؛ كنت ومازلت أعلق آمالاً نهضوية على اجيالكم الغضة، بما هو متاح لكم من نوافذ معرفية عابرة للمكان ولمحدودية المعلومات، وقد صارت فى كل يد، لتبدأ معكم وبكم دورة استنارة لاهوتية جادة ومعمقة.

أسوق اليكم تجربة ادبية لاهوتية، مؤنسنة، لواحد منكم سعدت بمعرفته، واستمتعت بسطوره، وأشرت عليه ان يجمع أوراقه فى كتاب يحمل عنوان
 (اللاهوت الإنسانى)

فى واحدة من وريقاته كتب:
سامحني يا أب، اتأخرت عليك😢
كل سنة واحنا طيبين بك
#تخاريف
كنا نسير في طبيعة جغرافية وعرة، لا تتناسب قطعا مع سنه وحالته الصحية.
كان رجلا مسنا، متعبا ومريضا، ولكن من كل ملامح وجهه يفيض عزم وجلد وبأس.
كان يتمتم بجملة ما كل فترة زمنية بسيطة، لم أكن اعلم انها صلاته الخاصة.
التفت إليّ وهو يبتسم وقال: "رغم الإجهاد والتعب تبدو علي ما يرام"
ابتسمت بدوري وعقّبت: "صحبتك أكثر من ممتعة"

على مسافة قريبة كان يتبعنا رجلين في زي الحرس الامبراطوري.
أجسام ضخمة وتكوين عضلي أشبه بالوحوش، تعلو وجوههم نظرة شرسة.
بالفعل معايير اختيار هؤلاء الأشخاص تضفي عليهم رعب إضافي يُزاد على خشونة الموقف.
جلس على صخرة غير منتظمة الشكل، لالتقاط أنفاسه بعد مدة من المسير الشاق.
اقترب الحرس منا لينتهروه؛ فنكمل المسير.

سأظل ما حييت لا أعلم من أين أتيت بتلك القوة والصرامة اللتان نظرت نحوهما بهما!
نظراتي لو كانت طعنات، للحقوا بيوليوس قيصر فورا!
تراجعوا قليلا ليتركوا لنا مساحة للكلام.

سألته: "لماذا؟"
تنهد بعمق وأجابني: "تحدي الكبرياء"
"قررت الإمبراطورة ان يوحنا، ذلك الضعيف، يستحق ان يُنفى لأنه تجرأ على أن ينتقد التصرفات اللامسيحية في العاصمة"
"جمعت رجال دين ذوو خصومات لكي يخرجوني من كرسيّ، متناسية أنني ناسك في الأصل، وللرب الأرض وملؤها، أينما توجهت؛ فهو معي وأنا له"
"ولكن تاريخك بأكمله يشهد لك"

"أنت هربت من الكهنوت قبلا لكي تحيا حياة النساك فعلا"
انطلق يضحك في صفاء قلب، ثم عقّب: "لازلت أتذكر موقف باسيليوس حين تركته يقبل الكهنوت وهربت إلى الجبل"
لم يكن يحق لي ان أتدخل في مجريات الأمور، انا كالعادة مجرد عابر في الأحداث.
ولكني كنت اتحرق ان اخبره بأن رسالته "عن الكهنوت" التي كتبها لباسيليوس لاحقا بعد رسامة باسيليوس، أصبحت من أقوى ما كُتب عن الكهنوت في كتابات آباء الكنيسة.

قام وقد بدت عليه إمارات الإجهاد، وأخذ يتهيأ للمسير.
مال عليّ قائلا: "لن أستطيع ان اكمل المسير، فلنعد إلى المدينة"
ارتعدت أوصالي؛ فأنا أعلم ما هو قادم 😢
أشرنا إلى الحرس بالالتفاف عائدين للمدينة.

يبدو انهم قد فهموا ما سوف يحدث، إذ انهم لم يعترضوا بتاتا.
في طريق العودة كنا نتحدث عن تاريخه، كان يشرح لي سر اهتمامه بالآخر وكيف اننا لا يمكن ان نفهم الإفخاريستيا بدون الشركة مع الآخر.
"يا صديقي، ان لم تر المسيح في الفقير علي باب الكنيسة، فلن تجده داخل الكأس"
كنت اعلم مدى تحيزه لليتورجيا العالم، الرجل كان فعلا منسكب بالتمام من اجل الآخر.

كل مصائبه السياسية كان سببها انحيازه للمسيح الكوني الموجود في الشوارع وخارج أسوار القصور والكنائس الفارهة.
"كيف لك ان تتقدم إلى هذه المائدة الملوكية، وأخيك غير قادر علي الوصول إليها؟؟؟؟؟"
تذكرت هذه المقولة وهو يخاطبني، شروحاته علي العظة علي الجبل.

كان ينتفض وهو ينطق، هذا الرجل هو آخروي بكل كيانه وجوارحه.
الرجل فعلا إفخاريستي بعنف.
دخلنا المدينة، واتجهنا من فورنا للكنيسة، حيث كان الكاهن يهيئ المكان فعلا للقداس الالهي.
يبدو انه كان علي علم بما سيكون!

حضرنا القداس الإلهي، حيث كان يوحنا قد ارتدى قميصا أبيضا.
تناول من الأسرار المقدسة للمرة الاخيرة، وقبل ان يغمض عينيه، للمرة الاخيرة قال صلاته الخاصة:
"المجد لله في كل شئ، آمين"
ستون عام من المجد
ستون عام من العظمة
ستون عام من الشبع الروحي
ولكنه، ....

يموت محروما من لدن الكنيسة.
يموت منفيا من كرسيه ومن المدينة التي عشقته، حرفيا، حتى الموت.
يموت وهو لا يعلم انه بعد مئات السنين يلقبونه بـ "ذهبي الفم" وهو لقب لو تعلمون عظيم ❤️
يموت شهيدا بدون سفك دم إرضاء لنزوات السلطة وشهوة التسلط وتصفية الحساب.

يموت غير عالما بما تركه من أثر على المسيحية شرقا وغربا.
يموت غريبا مجهولا وهو من أهم معلمي الإفخاريستيا في تاريخ الكنيسة.
طبت في رقادك يا ذهبي الفم وطابت الكنيسة التي استنارت بتعاليمك وسيرتك
#شهيد_الغشومية
#رؤى_قلبية