بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
يحتمل أن يكون قد شبّه السيد المسيح مجمع اليهود بشجرة تين، فإن الكتاب المقدَّس يقارن اليهود بزروع مختلفة: كالكرمة، والزيتونة، وأحيانا بالغابة. مرة يدعو النبي إرميا إسرائيل أو سكانها: "إسرائيل جفنة ممتدة" (هو 10: 1) وأيضًا: "زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك، بصوت ضجة عظيمة أوقد نارًا عليها فانكسرت أغصانها" (إر 11: 16). يقارنها نبي آخر من الأنبياء القدِّيسين بجبل لبنان، قائلاً: "افتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك" (زك 11: 1). فإن الغابة التي كانت في أورشليم التي هي الشعب الكثير الذي بلا عدد قد هلك بالنار.
يقول الرسول بولس: "لذلك يسوع أيضًا لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب. فلنخرج إذًا إليه خارج المَحَلَّة حاملين عاره، لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة" (عب 13: 12-14). وكأن الخروج خارج المَحَلَّة إشارة إلى الخروج من المدينة الزمنيّة واشتهاء الانطلاق إلى المدينة المستقبلة، أورشليم العليا أمنا.
ويتحدث القديس جيروم عن هيكل الرب الداخلي الذي يمكن للمؤمن أن يقتنيه أينما وُجد، بينما كثير من سكان أورشليم والأراضي المقدسة حرموا منه.
القدِّيس مار أفرآم السرياني: "وأنت يا برج، راعي ابنة صهيون القائم، سيأتي زمانك". تُشير هذه الكلمات إلى صدقيا الملك الكافر، هذا الذي يدعوه النبي برجًا، لأن شعب يهوذا استقرَّ تحت ظلِّه، ويدعوه راعيًا بسبب تدبيره للمملكة، ويدعوه قاتمًا بسبب خطأ الوثنيَّة التي التصق بها. مرَّة أخرى في المعنى الرمزي لكلماته يدعو الشيطان راعيًا قاتمًا، فإنَّه بطريقة رمزيَّة كان دائمًا يُهاجم ابنة صهيون تحت سماء قاتمة. وإذ يصطادها يسحبها بعيدًا عن النور – حقًا فإن من يسلك بخبثٍ يكره النور. لكن مؤخَّرًا رئيس أورشليم الرمزيَّة السامي الشرعي حطَّم هذا الطاغية بمجيئه حيث سحب الراعي القاتم بعيدًا.
هذا ما لمسه أنبياء العهد القديم، وكما رأى إشعياء النبي: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب؛ فيعلمنا من طرفه، ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب" (إش 2: 2-3).
تنبأ إرميا النبي عن خراب أورشليم، قائلاً: "هأنذا داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحد كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا، وأقيم دعواي على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم" (1: 15-16). وأعلن السيد المسيح ما سيحل بأورشليم، قائلاً: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم ُيترك لكم خرابًا" (مت 23: 37-38).
مع ما حمله إرميا من مرارة في داخله من جهة الشعب العنيد وما عاناه منهم بالرغم من محبته لهم، وإدراكه التأديبات القاسية التي ستعانيها أورشليم وكل مدن يهوذا، مرارته امتزجت بحلاوة خلال رؤيته السيد المسيح المخلص بروح النبوة، خلال الظلال، فلم يحمل يأسًا بل رجاءً.
قدم الله لإرميا النبي رؤيا ثانية، إذ نظر قدرًا منفوخة من جهة الشمال تنفتح فوهتها بالشر نحو الشعب، ويفسر له الرؤيا هكذا: "لأني هأنذاك داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحدٍ كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا؛ وأقيم دعواى على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم" . بهذه الرؤيا أوضح الله لإرميا كل شيء مقدمًا، كموكل قدم لوكيله خطته الإلهية بكل وضوح حتى لا يُفاجأ بها الوكيل فيضطرب عندما يرى الضيق قد حلّ بأورشليم وكل مدن يهوذا. هذا ما فعله السيد المسيح مع تلاميذه حين حدثهم مقدمًا بكل ما سيحل بهم من ضيقات ليستعدوا لمواجهتها. ومن جهة أخرى أوضح له أنه يعمل بكل الطرق فيستخدم حتى الأمم الشريرة لتأديب شعبه.
"أَحْسِنْ بِرِضَاكَ إِلَى صِهْيَوْنَ. ابْنِ أَسْوَارَ أُورُشَلِيم، حِينَئِذٍ تُسَرُّ بِذَبَائِحِ الْبِرِّ مُحْرَقَةٍ وَتَقْدِمَةٍ تَامَّةٍ. حِينَئِذٍ يُصْعِدُونَ عَلَى مَذْبَحِكَ عُجُولاً [مز 51- 18 ].
إذ تاب داود اكتشف بروح النبوة سرور الله بالبشرية، حيث ينزل كلمة الله متجسدًا، مقدمًا ذاته ذبيحة سرور للآب باسم جميع المؤمنين، مقيمًا تلاميذه ورسله كأسوارٍ حية للكنيسة المُقامة على المسيح الأساس الحيّ، والمحرقة المقبولة لدى الآب. خلاله نقدم "العجول"، أي تقدمات روحية كثيرة.