المقالة الثانية: هل في التجسد أخذ المسيح " جسداً فاسداً "؟؟؟!

دكتور جوزيف سعد حليم 

" لم يتعرض جسد السيد المسيح لما يتعرض له كل جسد بشري، ليس بسبب سحر أو خيال شخص أو أي شيء آخر سوى أن اتحاد "الكلمة أي اللاهوت" بالجسد (الناسوت) هو السبب في ذلك " هل هذه العبارة صحيحة أم خطأ؟!

هل تعرض جسد المسيح للفساد الأخلاقي؟! فكجسد بشري طبيعي هل تعرض لمحاربات الجسد بالشهوات الجسدية الطبيعية؟! وماذا عن التجربة على الجبل؟ هل انتصر فيها بقوة لاهوته أم بأخلاقه البشرية السامية؟!

وماذا عن الموت؟ هل تعرض للفساد الناتج عن التحلل بعد الموت؟ فهل تحللت وتدمرت خلايا وأنسجة هذا الجسد المقدس؟!

" تخيل قبرًا مفتوحًا، ماذا سوف ترى أو تشم؟ سوف تجد الجو مملوءاً برائحة التعفن والتحلل التي تتعرض لها كل الجثث ... تُرى لماذا لم يحدث هذا في قبر المخلص الصالح؟!

السؤال الأخطر: هل فساد الأجساد بعد الموت هو مجرد عملية بيولوجية ناتجة عن تفاعلات كيميائية بسبب توقف الدورة الدموية والجهاز التنفسي عن العمل، وأيضاً بسبب توقف الجهاز المناعي عن العمل تبدأ البكتيريا بهضم الأمعاء وتتحلل الخلايا ويضيع تماسك الأنسجة بسبب البروتينات المتحللة؟! هل نتوقف عند هذا الحد من التفسير العلمي؟ أم أن هناك بُعداً آخر مرتبط بسقوط الإنسان؟!

فهل آدم لو لم يكن قد أخطأ في جنة عدن كان سيموت بيولوجياً ويتحلل ويتعرض للفساد لأن هذا أمر طبيعي من خواص الجسد البشري؟! وأنه بطبيعته خُلق قابلاً للفساد والفناء وليس نتيجة مباشرة أو عقوبة على الخطية؟!

هل تعلم أن من يقول مثل هذا الرأي يقع دون أن يشعر في هرطقة بيلاجيوس الذي نادى بذلك، فحرمته الكنيسة؟!

أم أن الرأي الصحيح المستقيم هو أن آدم تعرض لحكم " الموت " بسبب التعدي وكسر الوصية " أي الخطية " فنتج عن ذلك الفساد؟! أي أن الفساد في هذه الحالة يكون تابعاً وناتجاً بالضرورة عن " الخطية الأولى" التي بسببها ورثت البشرية تلك الطبيعة الفاسدة؟!

وهل يمكن لجسد بشري استلم هذه الطبيعة الساقطة من آدم وورث الطبيعة الخاطئة أن يتحدى قوانين الطبيعة البشرية ولا يموت؟ وإن مات لا يتحلل بعد الموت؟

وهل المسيح حينما مات بجسده الخاص كان ذلك تتميماً لعقوبة الموت عن نفسه كإنسان؟ أم أنه كان حاملاً جسدنا البشري المحكوم عليه بالموت ليتمم فيه حكم الموت ويمنحنا بنعمته القيامة؟! وهل كان هذا لتتميم عملية المبادلة كنائب عن البشرية دون أن يلحقه فساد الطبيعة الساقطة؟!

وهل الجسد الذي أخذه الكلمة كان جسداً بشرياً كاملاً وقابلاً للموت بحسب الطبيعة البشرية؟! ولكنه غير فاسد بسبب اتحاده بالكلمة الذي هو القيامة والحياة وهو مصدرها؟!

ما الفرق بين الفساد الجسدي والفساد الروحي كما يصفه الكتاب المقدس؟ وكيف يتجلى كل منهما؟
كيف يفسر الكتاب المقدس أن جسد المسيح لم ير فساداً؟ فهل هذا فقط بسبب اتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة البشرية في جسده القدوس؟!
ما هي علاقة الفساد الجسدي بدخول الخطية إلى العالم؟ وكيف انعكس ذلك على البشرية؟ (رو 5:12 و1 كو15:21-22)


هذه مجموعة أخرى من الأسئلة التي تساعدنا على التفكير في الأمر بصورة أكثر شمولاً بالإضافة للأسئلة التي كانت في مقالنا السابق، والآن نعود لاستكمال الحديث ولنعود حيث توقفنا مع

أولاً: معنى " الفساد " لغوياً و (كتابياً)
1. في اللغة العبرية (لغة العهد القديم)
1. שָׁחַת وتُنطق (شحت أو شخت) وتعني التحلل، أو الفساد الجسدي، الدمار، أو الهلاك ومنها كلمة תִּשְׁחִית (تِشْخيت أو تشحيت) والتي جاءت منها كلمة שחיתות (إشخيتوت) التي تحدثنا عنها سابقاً، وقلنا إنها جاءت بثلاث معاني (يمكن الرجوع للمقال السابق) لكن للمراجعة نقول:

أ. بمعنى الفساد الجسدي الذي يحدث بعد الموت:
"لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا." (مز 16: 10)

ب. بمعنى الفساد الأخلاقي والخراب الروحي للبشرية اللذين سببا الخراب "الطوفان":
"وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا. وَرَأَى اللهُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ." (تك 6: 11، 12)

ج. بمعنى الفساد المادي، أي تلف الشيء بالكامل:
" وَإِذَا ضَرَبَ إِنْسَانٌ عَيْنَ عَبْدِهِ، أَوْ عَيْنَ أَمَتِهِ فَأَتْلَفَهَا، يُطْلِقُهُ حُرًّا عِوَضًا عَنْ عَيْنِهِ" (خر 21: 26)

"فَانْطَلَقْتُ إِلَى الْفُرَاتِ، وَحَفَرْتُ وَأَخَذْتُ الْمِنْطَقَةَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي طَمَرْتُهَا فِيهِ. وَإِذَا بِالْمِنْطَقَةِ قَدْ فَسَدَتْ. لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ." (إر 13: 7)

2. חָבַל وتُنطق(خَفَل) وتعني الضرر، أو التلف، أو الكارثة كما وردت في (إش 10: 27) "وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ حِمْلَهُ يَزُولُ عَنْ كَتِفِكَ، وَنِيرَهُ عَنْ عُنُقِكَ، وَيَتْلَفُ (חָבַל) النِّيرُ بِسَبَبِ السَّمَانَةِ."

3. פְּשַׁע وتُنطق (بِشَع) وتعني خطية أو تعدي أو جريمة أو فساد أخلاقي، فمثلاً جاءت في (إش 53: 5) " وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا (ְּפְּשַׁע) " كإشارة إلى التعدي أو الخطية التي تُسبب الانفصال عن الله، لكن جاءت في (مي 1: 5) " كُلُّ هذَا مِنْ أَجْلِ إِثْمِ (ְּפְּשַׁע) يَعْقُوبَ، وَمِنْ أَجْلِ خَطِيَّةِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ." لتعني هنا إجمالاً التعديات التي تمثل الفساد الأخلاقي.

4. מַשְׁחִית وتُنطق (مَشْحِيت) وهي تعني المُهلك أو المفسد، وتشير إلى عوامل التدمير أو الفساد وجاءت في (خر 12: 23) " وَلاَ يَدَعُ الْمُهْلِكَ (מַשְׁחִית) يَدْخُلُ بُيُوتَكُمْ لِيَضْرِبَ"

2. في اللغة اليونانية (لغة العهد الجديد)
1. Φθορά وتُنطق (فثورا) وتعني التحلل أو التدهور الجسدي، وهي تُستخدم للإشارة إلى الفساد الطبيعي (التحلل بعد الموت) وتُستخدم أيضاُ بمعني الفساد الأخلاقي (أي انحلال القيم)

أ. استُخدمت في (رو 8: 21) بمعنى الفساد الذي يُعاني منه العالم المادي من جراء الخطية "لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ (Φθορά) إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ"

ب. وفي (1كو 15: 42) تُستخدم في وصف الفرق بين الجسد الفاسد الذي يموت والجسد الممجد في القيامة " يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ (Φθορά) وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ (ἀφθαρσία)" وتُنطق " أفثارسيا " وتعني عدم الفساد الذي هو النتيجة النهائية لعمل الفداء بالمسيح يسوع ربنا، حيث سيتم التحرير النهائي للإنسان المؤمن من سلطان الموت والتحلل الجسدي، ويُمنح الحياة الأبدية ليلبس جسد القيامة الممجد.

ج. وفي (2بط 1: 4) "هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ (Φθορά) الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ " حيث كلمة الفساد هنا تعني الفساد الأخلاقي الناتج عن الشهوة والخطية.

2. Διαφθορά وتُنطق (ديافثورا) واستُخدمت بمعنى فساد لتصف التحلل الشامل، فهي تُشير إلى التحلل بعد الموت "لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا (διαφθορά ديافثورا) وهذا اقتباس من العهد القديم من (مز 16: 10) وهنا تُشير إلى عدم تحلل جسد المسيح بعد موته، واستُخدمت أيضاً في (أع 13: 36، 37) في المقارنة التي عقدها القديس بولس الرسول بين جسد داود الذي تحلل أي رأى فساداً بين وجسد المسيح الذي لم ير فساداً لكونه القدوس الطاهر.

3. Καταφθείρω وتُنطق (كاتافثايرو) التي تعني الإفساد سواء المادي أو الأخلاقي، وهي تُستخدم للتعبير عن التدمير أو الإفساد الذي يسببه الإنسان لنفسه أو للآخرين " إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ (καταφθείρω كاتافثايرو) هَيْكَلَ اللهِ فَسَيُفْسِدُهُ اللهُ لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ" (1كو 3: 17) فهنا تُشير الكلمة إلى الفساد الروحي الذي يُمكن أن يُلحقه بنفسه، لذا تعني إفساد.  

4. Ματαιότης وتُنطق (ماتايوتيس) وتعني البُطلان أو العبثية التي تؤدي إلى الفساد، فهي تُشير إلى حال الخليقة بعد السقوط، التي أصبحت عُرضة للعبث والفساد "إِذْ أُخْضِعَتِ الْخَلِيقَةُ لِلْبُطْلِ (ματαιότης ماتايوتيس) - لَيْسَ طَوْعًا، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِي أَخْضَعَهَا - عَلَى الرَّجَاءِ. لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ (φθορά فثورا) إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ" (رو 8: 20، 21) وهذا يوضح لنا أن الفساد مرتبط بالبطلان الذي تعاني منه الخليقة بسبب الخطية.

5. Ἀφθαρσία وتُنطق (أفثارسيا) وتعني عدم الفساد، أو الخلود، أو عدم الفناء، وهذه الكلمة تُستخدم في الكتاب المقدس لتصف ثلاثة معاني
•    الأول: وصف القيامة والحالة الجديدة " يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ" (1كو 13: 42) وهذا يُشير إلى الجسد الممجد الذي لا يخضع للموت أو التحلل بعد القيامة.

•    الثاني: وصف الحياة الأبدية " وَإِنَّمَا أُظْهِرَتِ الآنَ بِظُهُورِ مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ (ἀφθαρσία أفثارسيا) بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ" (2تي 1: 10)

•    الثالث: وصف الكمال الروحي " فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ، وَعَلَى إِسْرَائِيلِ اللهِ" (غل 6: 16) ففي بعض الترجمات اللاهوتية، تُعتبر (ἀφθαρσία أفثارسيا) صفة تعكس الكمال الروحي والنقاء.

باختصار في اللغة اليونانية الكتابية كلمة (φθορά  فثورا) تُشير إلى الفساد الناتج عن الخطية والطبيعة الساقطة الفانية، بينما تُشير (ἀφθαρσία أفثارسيا) إلى التحرر من الفساد بفضل عمل المسيح الخلاصي.

وكما قال القديس أثناسيوس الرسولي "فلقد أدرك الكلمة جيداً أنه لم يكن ممكناً أن يقضي على فساد البشرية بأي طريقة أُخرى سوى الموت نيابة عن الجميع. ومن غير الممكن أن يموت الكلمة لآنه غير مائت بسبب أنه هو ابن الآب غير المائت، ولهذا اتخذ لنفسه جسداً قابلاً للموت حتى إنه عندما يتحد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الجميع، يُصبح جديراً ليس فقط أن يموت نيابة عن الجميع، بل ويبقى في عدم فساد بسبب اتحاد الكلمة به" (تجسد الكلمة الفصل التاسع الفقرة الأولى)

إذن، الجسد الذي أخذه المسيح في تجسده وخلال حياته على الأرض هو جسد بشري حقيقي، لكنه، وفق إيماننا المسيحي، لم يدخل في حالة فساد لا أخلاقياً ولا حتى بعد موته لأنه قام منتصرًا على الموت لأنه هو "القيامة والحياة"

وللحديث بقية طالباً بركة صلواتكم
دكتور جوزيف سعد حليم 

لقراءة الجزء الأول أضغط هنــــــا