رحاب السماحي
هل تعرضت الشخصية المصرية للتشويه في السنوات الأخيرة؟ أم أن هناك سمات تميزت بها كإرث ثقافي تراكم عبر تعاقب الأنظمة السياسية التي حكمت مصر؟

تتوالى الأسئلة عندما نرصد سمات الشخصية المصرية في العصر الحالي. لماذا يتسم الشعب المصري بالفكر الجمعي ولا يأبه بالاختلافات الفردية التي تميز كل شخصية؟ بل أصبح يلهث وراء نسق القطيع، ويُنبذ من يخرج عن هذا النسق؟

يطرح كتاب "تراث العبيد في حكم مصر المعاصرة" محاولة للإجابة على هذه التساؤلات. الكتاب يحاول تأصيل جذور الوعي المصري منذ حكم المماليك أو "الرقيق الأبيض" حتى اليوم، مستعرضًا كيفية استمرار هذا النظام نحو ألف عام من حكم أحمد بن طولون عام 868م.

يكشف الكتاب أساليب حكم المماليك الذين اعتمدوا على شراء العبيد، حيث كان الأمير المملوك يوليهم مهام جهاز الأمن لتأمين نفسه، إضافة إلى تكوين جيش من العبيد. وكان المماليك يفضلون شراء العبيد الصغار أو "الترابيب" لضمان ولائهم، وفي بعض الحالات، كانوا يشترون العبيد الكبار في السن "المحاليل"، ولكن ولاءهم لم يكن على نفس الدرجة.

وكان العبد الأبيض يسعى لإظهار الطاعة للخليفة أو السلطان، وذلك عبر إرضاء حاشيته بتقديم الهدايا، وقد يتزوج من بنات رجال البلاط أو الخليفة نفسه، كما فعل خمارويه بن أحمد بن طولون عندما زوج ابنته قطر الندى للخليفة العباسي المعتضد بالله.

كما كان العبيد المماليك يتفننون في إيقاع الفتنة بين مجموعات العبيد التابعين لهم، خاصة إذا كانوا من المجلوبين. وقد نشأت مفاهيم مثل "المهموز" و"الزنب"، وهي مصطلحات مملوكية عبر عنها المصريون حديثًا بكلمات مثل "التدبيس" و"التلبيس".

يشير الكتاب إلى أن هذه السلوكيات ليست محصورة في المجتمع المملوكي فقط، ولكن إذا أصبحت سلوكًا عامًا لا يؤدي إلى الشعور بالندم، فإنها تصبح مشكلة حقيقية. كما يشير إلى أن الفاطميين استخدموا أيضًا العبيد البيض، حيث كانت جيوشهم تضم عددًا كبيرًا من المماليك.

ويرتبط الكتاب أيضًا بانتشار الرشوة في العصر الحالي، ويعود سببها إلى التراث المملوكي الذي شكل جزءًا من الشخصية المصرية. فقد كانت الرشوة تعرف بـ "برطلة"، وهي التسمية التي كانت تُطلق عليها حتى وقت قريب.

يوضح الكتاب أن الدماء المملوكية في مصر لا تقل عن الدماء العربية، وذلك بسبب التزاوج بين المماليك غير المخصيين والمصريين. لذا، لم يكن التراث المملوكي هو الفاعل الوحيد، بل الدماء المملوكية أيضًا كان لها دور.

ويشير الكتاب إلى أنه من المحال في مصر المملوكية أن يمارس مديرٌ مهامه طبقًا للقانون، وإذا طال العهد بمسؤول في منصب معين، فإنه ينجح في تكوين مجموعة مملوكية خاصة به قائمة على الخوف من الأمير أو السلطان. وهذا يفسر القول المملوكي الشائع "نخاف منختشيش".

وعن المجاملات في المجتمع المصري اليوم، يشير الكتاب إلى انتشار المجاملات اللسانية التي تهدف إلى التملق للحصول على ما يريد الشخص، حيث كانت هناك مجاملات "لزجة" مشابهة لقول "عيوني"، "منستغناش عنك"، "مش عارفين من غيرك كنا حنعمل إيه".

كما يلفت الكتاب إلى استخدام الجنس كوسيلة للإذلال في العصر المملوكي، حيث كانت المجموعة المملوكية المنتصرة تمارس اللواط مع أفراد المجموعة المهزومة كوسيلة لإذلالهم. وقد كان السب بالعضو التناسلي للأم يعد إرثًا مملوكيًا، وتزايد استخدامه في العصر العثماني بسبب الانخفاض في قيمة الشرف والأنساب.

ويؤكد الكاتب أن الضربة الأولى للتراث المملوكي كانت على يد محمد علي، الذي قضى على حكم المماليك في مذبحته الشهيرة عام 1811، إلا أن العنصر المملوكي بقي مختلطًا بالدماء المصرية نتيجة تزويج زوجات المماليك القتلى لأتباع محمد علي.

أما الضربة الثانية فكانت في عصر عبد الناصر، حيث اقتحمت العناصر غير المملوكية مثل الضباط الأحرار كليات الشرطة والحربية، إلا أن أصحاب التراث المملوكي كانوا الأقدر على التكتل والوصول إلى المناصب العليا.

وعن تأثير التراث المملوكي على الحركة الإسلامية في مصر، يشير الكتاب إلى أن الإخوان المسلمين ظلوا بعيدين عن التشرذم المملوكي حتى بداية التغيرات في أسلوب الدعوة بعد غياب الجاذبية الشخصية لحسن البنا. فقد بدأت التصدعات بعد محاولة الاغتيال الفاشلة لعبد الناصر، حيث بدأ التشرذم في الجماعة بعد رفضهم دخول وزارة الثورة.

وأخيرًا، يشير الكتاب إلى أن الوعي المصري للأسف لم يتحرر بعد من الإرث المملوكي الذي لا يزال يؤثر على المجتمع المصري حتى اليوم، حيث طغت الانتهازية والخوف المزمن على الشخصية المصرية، مما جعلها أسيرة لظروفها السياسية والإنسانية.