د. منى نوال حلمى
أستعير مقولة الفيلسوف الجميل الرشيق، عاشق الرياضة والسباحة والعدالة بين النساء والرجال، مؤسس المدينة الفاضلة، «أفلاطون»: ٤٢٧ -٣٤٧ ق.م:
«كلما ازداد عدد القوانين التى نسنها، ازداد إغراء الناس للخروج عليها».
هذا تفسير أفلاطون. أما تفسيرى أنا، فيرى أن المجتمعات التى تدرك شدة فسادها، وحدّة الظلم بها، وفوضى تناقضاتها الأخلاقية، وافتقارها إلى الحد الأدنى الذى يمنع الناس من ارتكاب الجرائم بأنواعها، تعوض هذا الخلل، بكثرة القوانين، وبطش العقوبات وقسوة الجزاء. تماما مثل الأب الفاسد، الذى يريد إخفاء فساده بإرهاب الزوجة والأطفال.
كما أننى على قناعة راسخة، تدعمها تأملاتى وقراءاتى للتاريخ القديم والحديث، أن البشر الذين يسنون القوانين، ويشرعون العقوبات القاسية، ضمانا للعدل، فى أغلب الحالات، يكونون هم الذين تسببوا فى إحداث هذا الظلم، بدرجات وأشكال مختلفة.
على سبيل المثال، القوانين غير العادلة، بين النساء والرجال، وضعها ذكور، لترسيخ الثقافة الذكورية. فالمرأة، تعامل، وتحاكم، وتعاقب، بقوانين هى لم تشارك فى وضعها. وهذا فى حد ذاته، «ضد العدالة».
إن رمز العدالة، هو تمثال سيدة العدالة، وهى معصوبة العينين، بيد تمسك السيف، وتمسك الميزان باليد الأخرى. الميزان يرمز إلى العدالة، والسيف يرمز إلى قوة العدالة، والمرأة معصوبة العينين، ترمز إلى «الحياد»، و«عدم الانحياز».
وما أكثر الأشياء التى تحول جوهرها وغايتها إلى شعارات، وطقوس، وتماثيل.
نتكلم كثيرا عن العدالة، عن المواطنة، عن الحقوق والحريات، عن الأخلاق، عن الدولة المدنية. وغالبا ما تكون كثرة الكلام تعبيرا عن «نقص» الفعل.
العدالة ليست فى كتب القانون، ومناهج كليات الحقوق، وفتاوى الفقهاء، والعقوبات المنطوق بها فى قاعات المحاكم. لكنها فى العقول والقلوب وسلوكيات البشر.
وكما تضخ عضلة القلب الدم، إلى جميع أجزاء الجسم فإن العدالة، تضخ الصحة والسلامة، والاستقرار، والاستقامة، إلى جميع أجزاء المجتمع.
يزيد انتماء وحب المواطنات والمواطنين لأوطانهم حين يشعرون أن العدالة واقع فعلى ناجز، وحقيقة يومية، تنصفهم جميعا دون تمييز.
قال جورج برنارد شو ٢٦ يوليو ١٨٥٦ – ٢ نوفمبر ١٩٥٠: «ليست الفضيلة ألا تتجنب فعل الرذيلة فحسب، بل فى ألا تشتهيها أيضا».
إن مفهوم «الرذيلة» شىء نسبى ولكن إذا فهمناها على أنها إيذاء للنفس، وللغير، فإنها تجد جذورها فى «غياب» العدالة، بأشكالها ودرجاتها المتباينة.
فى مجتمعاتنا، هناك تضخم، يكاد يشكل نوعا من الهوس، للزج بالأخلاق، والفضيلة، فى أية قضية. وما يدهشنى، أن الناس المؤرقة بالأخلاق والفضيلة، لا يذكرون كلمة واحدة، عن العدالة. كل كلام الفضيلة والأخلاق، يتمحور فى سؤال واحد، استعلائى، صاخب، محموم، قلق، متربص: «ماذا تفعل المرأة بجسدها؟».
سؤال واحد، يعكس حالة مزمنة من الهزيمة الحضارية، تم استبدالها بالرقابة والوصاية على نصف البشرية.
■ ■ ■
مازلت أتساءل عن معنى «فعل فاضح فى الطريق العام». وكيف يكون الفعل فاضحا، وهو فى الطريق العام؟.
إن الفعل الذى يحدث، أمام الناس، لا يكون فاضحا. فالفضيحة، لغويا، واجتماعيا، وأخلاقيا، تشير إلى أشياء «مخفية»، «مستترة» عن الأعين، ثم تعرضت للكشف، الذى يسقط عنها بالضرورة، صفة الفضيحة.
هل قبلة العشاق، فى الطريق العام، «فعل فاضح»؟، وهل إذا حدثت القبلات «دكاكينى» فى البيوت المغلقة، وتحت السلالم المهجورة، المعتمة، لا تكون لدينا مشكلة؟. بمعنى آخر، لو حدثت القبلة، فى بيت مغلق، تكون فعلا «فاضلا»؟. هل «الفعل»، أم «مكان وقوعه»، هو ما نتربص به؟.
هل عوادم السيارات، التى تسبب السرطانات، فعل فاضح أم فعل فاضل؟. هل الضوضاء المستمرة ليل نهار، وزعيق الميكروفونات، فعل فاضح، أم فعل فاضل؟. أكوام القمامة فى الأحياء الفقيرة والقرى، انهيار البيوت على سكانها.. وسائل المواصلات الشعبية المكتظة بالناس.. الطوابير الطويلة أمام المستشفيات، الخالية من الحد الأدنى من أدوات الإسعاف.. تسول الأطفال المعدمين، أو تشغيلهم لبيع المناديل أو الورد.. مظاهر الفقر المدقع.. تغطية الفتيات والنساء.. كتب التطرف الدينى على الأرصفة.. ذبح البنات والنساء، فى الطريق العام، فى وضح النهار، على أيدى ذكور العائلة أو الأزواج، هل هذه نعدها «أفعالا فاضحة فى الطريق العام»؟.
■ ■ ■
يتعدد الرجال، والجميع يفضلونها «خاضعة».
أكبر دليل على ذلك، أن الرجل المحب والمرأة الحرة، أمران لا يتعايشان معا، تحت سقف واحد، إلا إذا كان هذا السقف «خلوة غير شرعية»، مُحرمة، معاقبة، منبوذة. ويلجأ لها الرجل، لفترة مؤقتة محدودة، حتى يستقر تحت سقف واحد، فى خلوة شرعية مقبولة، حلال ربنا وشرعه، مع امرأة مطيعة، لا تأتى الحرية بخاطرها. هكذا تتكون الأسرة الأبوية المحمودة المرضىّ عنها وعن ذريتها، ونسبها الأبوى المشرف، الذى يعتبر النسب إلى الأم، عارا، وكفرا، وفضيحة.
وكلما زاد نصيب المرأة من الحرية، أسرع الرجل، فى الهروب، وكأنها فيروس خطير، ينذر بعواقب وخيمة.
إن العجز الحقيقى للرجل ليس فى نقصان القدرة الجنسية، ولكن فى عدم القدرة على حب امرأة حرة التفكير والإرادة والمصير، وفى العجز عن إقامة علاقة مع امرأة ند له، أو تفوقه.
إنه عجز تتوارثه الأجيال المتعاقبة من الرجال، ليصبح مثل «الجينات»، وأصبح مرادفًا لمعنى «الرجولة» المزروعة داخله منذ أزمنة سحيقة. رجولة ترى أن المرأة التى تشتهى الحرية، ولا تقبل المساومة عليها، «زائدة» وجودية الواجب استئصالها، و«الرجولة» الكاملة، هى النفور من النساء الأحرار، والتنديد بهن ومحاصرتهن بالشكوك والاتهامات.
تتحرك مشاعر الرجل لامرأة، لا تحب أن تطيع أحدا، إلا نفسها. ولكنه حين يقرر أن يكمل نصف دينه، كما يُقال، يذهب إلى امرأة له عليها الكلمة العليا، وتعتبره إلها، يُعبد، ويُسجد له.
لا يستطيع الرجل أن يتصور، كيف يكمل نصف دينه مع امرأة، ترى الطاعة رذيلة. أو كيف يواجه على الملأ مجتمع الرجال، بامرأة ضد مجتمع الرجال.
إن تعريف الزواج للرجل، هو كيف يعثر على امرأة «مريحة» لا تثير تساؤلات أو مشاكل، امرأة مغمضة العينين ومغمضة الكرامة ومغمضة الوعى ومغمضة الجسد.
أما المرأة الحرة التى تعول نفسها وتعول كرامتها، فهى «وجع دماغ» يزيد الحياة تعقيدًا وصراعًا، لا داعى لهما. وهى امرأة خطر على سُمعة رجولته، وكرامة ذكوريته.
قد يغفر الرجل للمرأة الخيانة والذهاب إلى رجل آخر- الطامة الكبرى فى عُرف الأخلاق الذكورية- لكنه لا يغفر لها الذهاب إلى مخدع «الحرية».
إذا اختارت المرأة أن تمد يدها وتقطف الثمرة المحرمة، واسمها «الحرية»، فما عليها إلا أن تدفع الثمن راضية، وتعيش فى استغناء عن الرجل المحب، أو الزوج العاشق.
■ ■ ■
خِتامه شِعر
اقتطع من وقتك بعض الوقت
لتكتشف لون عيونى
ولماذا تحول شعرى إلى الأبيض
قبل مجىء الأوان
اقتطع من وقتك بعض الوقت
وأحبنى قليلا لأتذكر
أننى امرأة
مازالت مسجلة بين الأحياء
لها حبيب يهتم بأمرها
مثل كل النساء
اقتطع من وقتك بعض الوقت
وأحبنى لبعض الأيام
ثلاث مرات فى الأسبوع
السبت والأحد والأربعاء
دعنا نرتشف سكون الليل
وما يخبئه من أسرار
وعلى ضوء الشموع
نقتسم الصمت الشهى والعشاء.
نقلا عن المصرى اليوم