بمناسبة عيد جلوسه الثاني عشر:
القمص يوحنا نصيف
    نحتفل اليوم بالعيد الثاني عشر لجلوس قداسة البابا تواضروس الثاني على كرسي مارمرقس الرسول.

    والحقيقة أنّ هذا الاختيار الإلهي كان هو عطيّة الله للكنيسة، بعد أن مرّت بفترة عصيبة عند نياحة قداسة البابا شنودة الثالث، ولكنّها اجتازتها بالصوم والصلاة، حتّى جاءت العطيّة الإلهيّة مُفرِحة لكلّ القلوب، لنتأكّد أنّ "كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ" (يع1: 17). ولعلّنا نلاحظ أنّ كلمة "تواضروس" تُعني "عطيّة الله" The gift of God؛ وهكذا يؤكّد الله حُبّه وأمانته لشعبه من دورٍ إلى دور!

    تمتدّ معرفتي بالبابا تواضروس الثاني إلى حوالي خمسين سنة، عندما كان أستاذي بمدارس الأحد لعِدّة سنوات في منتصف السبعينيّات.. كان هو أمينًا للخدمة بكنيسة الملاك ميخائيل بدمنهور، وكنت وقتها أسكن بمدينة المحمودية (18 كيلومتر شمال شرق دمنهور)، ولم يكن بكنيستنا أيّ خادم، فكان الدكتور وجيه يحضر مع خادم آخَر أسبوعيًّا كلّ يوم جُمعة ليصلّي معنا القدّاس الإلهي ويقوم بعده بخدمة مدارس الأحد لمجموعة في حدود خمسة عشر من الأولاد والبنات في سِن ابتدائي وإعدادي.. وأتذكّر أنّه كان يتميّز بالطيبة واللطف والصبر، مع تميُّزه بموهبة التشويق في سرد قصص الإنجيل وسِيَر القدّيسين..

    بعد رسامته أسقفًا في عام 1997م التقينا عشرات المرّات، سواء في الكنيسة المرقسيّة أو في مبنى الكرمة بكينج مريوط أو في أماكن أخرى.. وكان دائم التشجيع لي، يتفاهم ويتناقش بروح الوداعة والبساطة والوضوح في كلّ الأمور، ويسعى دائمًا بتواضُع لتبادُل الخِبرات، على الرغم من فارق السِن والخبرة والمكانة بيننا.. وكُنت ألاحظ دائمًا ميله للابتكار واهتمامه بالرؤية المستقبليّة للكنيسة، مع الاهتمام بمدّ جذور عميقة في التراث الآبائي والإنساني بوجه عام..

    هو بالحقيقة يحمل في قلبه حُبًّا صادقًا للجميع، ولا أنسى أنّه حرص على الحضور خصِّيصًا ليرأس صلوات تجنيز والدي بالجسد في يوليو عام 2004م وألقى كلمة روحيّة عميقة تَعَزّى بها كلّ الحاضرين.

    دعوْتُه في إحدى المرّات للمشاركة في مؤتمر لمكافحة ختان الإناث، فحضر وساهم بمحاضرة قيّمة جِدًّا حول هذا الموضوع، كما كان يلبّي الدعوة في كثير من كنائس الإسكندريّة لافتتاح مراكز خدمة وأنشطة جديدة بها.. ولعلّ الله كان يُعدّه ليتعرّف عن قُرب على الكنائس التي سيصير راعيًا لها في يومٍ من الأيام!

    أتذكّر منذ حوالي 25 سنة أنّه قد دار بينه وبيني حديث قصير بعد أن افتتح مركزًا للخدمة في إحدى الكنائس بالإسكندريّة باسم الأم تريزا، وكان لافِتًا أنّ المركز يُسمّى بهذا الاسم على الرغم أنّ الأم تريزا لا تنتمي للكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة.. ووقتها قال لي تعليقًا مُذهِلاً: "عُقبال ما نفتح مركز باسم الدكتور أحمد زويل"! هكذا يحمل البابا تواضروس (عطيّة الله للكنيسة) عقليّة متفتِّحة تَحتَرِم الإنجاز الإنساني وتُقَدِّر كرامته، وتحبّ أن تتعلّم من الجميع..!

    في إحدى المرّات أبلغتُه أنّ أحد الخُدّام بمنطقة رعايته قد تصرّف بشكل غير أمين في أمور مالية مع أرملة عجوز من شعب الكنيسة المرقسيّة.. الموضوع انتهى بسلام ولكن السيّدة كانت متأثّرة بما حدث.. فما كان منه إلاّ أن اقترح عليّ أن نزور هذه الأرملة معًا في أقرب وقت، وبالفِعل حضر خصّيصًا من كينج مريوط في صباح يوم خميس وترك سيارته في فناء الكنيسة المرقسيّة، وذهبنا سويًّا بسيارتي وزُرنا هذه الأرملة، وكانت كلماته كالبلسم الشافي لقلبها، وتعزّينا تعزية ليست بقليلة..!

    بعد حضوري للخدمة هنا بأمريكا في عام 2009م، كان هو الأسقف الوحيد الذي اتّصل بي من مصر، لكي يطمئن عليّ ويؤازرني بمحبته وبكلمات تشجيع كثيرة، وعندما فقد رقم تليفوني طَلَبَهُ من والدتي وهاتَفَني ثانيةً، لكي يسأل عن أحوالي وأخبار الخِدمة وإن كنتُ أحتاجُ شيئًا.. هكذا رأيتُ فيه الحُبَّ عمليًّا والأبوّة متجسِّدةً!

    لذلك فإنّي شعرتُ بعد الاختيار الإلهي له، أنّ الله قد وهب الكنيسة بالفِعل راعيًا صالحًا حسب قلبه.. "فَشُكْرًا ِللهِ عَلَى عَطِيَّتِهِ الَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا" (2كو9: 15).
    أمّا عن ذكرياتي معه في فترة بطريركيّة المباركة، فإنّها ستحتاج لأحاديث أخرى طويلة، يمكن أن تكون في مناسبات مُقبِلة بنعمة المسيح.
    كلّ عام وغبطتكم بخير يا قداسة البابا تواضروس حبيب المسيح،،

القمص يوحنا نصيف
18 نوفمبر 2024م
* الصورة هي لأحدث لقاء لي مع قداسة البابا تواضروس، في الشهر الماضي (أكتوبر 2024م)، بالمقرّ البابوي بالقاهرة.