عادل نعمان
..والفارق شاسع فى تداول السلطة بين الدولة المدنية والدولة الدينية، تنعقد فى الأولى بصندوق الانتخاب واختيارات الشعوب ديمقراطيًا، وفى الثانية من الفقهاء من يراها اختيارًا بالرضا، أو اجتباء بالشورى من أهل الحل والعقد، أو انعقادها بالغلبة والقهر «قد أطلق الكثير من الفقهاء القول بانعقاد إمامة المتغلب، بل وجبت بيعته» ولم يصل إلى علمنا أن دولة دينية فى تاريخنا كله قد انعقد الحكم أو البيعة فيها بالرضا أو بالشورى أو باجتباء أهل الحل والعقد، وأذعن الناس فى أغلبها إلى القوة والسيف، إلا إذا اعتبروا أن البيعة بسيف الحياء رضا، أو اصطفاء رهط قليل «ستة مثلًا» من أهل الحل والعقد من الأهل والأقارب مقنع ومستجاب، ولنا فيما نعيشه الآن من الانتقال السلمى للسلطة فى أمريكا العبرة والمثل بغض النظر عن النتائج، فهكذا تكون الديمقراطية واختيار الحكام.
كامالا هاريس تعلن بعد الهزيمة «علينا أن نقبل نتائج هذه الانتخابات، ونعمل على الانتقال السلمى للسلطة، وهذا هو المبدأ الأصيل فى الديمقراطية، وهذا ما يميز الديمقراطية الأمريكية!!» وكذلك الرئيس بايدن يعلن أيضا على الملأ بعد إعلان النتيجة «أنه قد أكد للرئيس الجديد أنه سيوجه إدارته بأكملها للعمل مع فريقه لضمان انتقال سلمى ومنظم للسلطة». كامالا هاريس وبايدن يعلمان علم اليقين أن التأخير فى تسليم السلطة فى موعدها سيضعهما تحت طائلة القانون والمدعى العام، فضلًا على أنهما لا يملكان أدوات المماطلة أو التسويف عن تسليمها فى موعدها المحدد سلفًا، وأن الالتزام بالقانون لا مفر منه.
ولأن الرئيس بايدن وهاريس يعلمان تمامًا أن جهات أخرى مسؤولة عن مراقبة وتنفيذ الانتقال السلمى للسلطة وهى فترة تنتهى فى العشرين من يناير القادم، بعيدة تمامًا عن سلطة الدولة والرئاسة والحزب فيكون الأمر نافذًا وواجبًا على الرئيس الحالى والقادم. فريقا العمل المكونان من رجال الرئيسين الحالى والقادم يضعان خطة انتقال السلطة وآلياتها، وفريق فيدرالى يرقب ويجهز للرئيس القادم مراسم دخول البيت الأبيض، بعيدًا عن الحزبين وسلطة الدولة.
وحقيقة الأمر فإن تداول السلطة سلميًّا يرتبط بالتعدد الحزبى الحقيقى، الذى يسمح بالتنافس السياسى الصحى النزيه، ولا يستقيم هذا مع الحزب الواحد، أو الأحزاب المهمشة أو الموالية، وكذلك فإن الدولة الدينية اليوم والأمس لا تعرف معنى الانتقال السلمى للسلطة ولم تجربه أو تختبره لمرة واحدة، ولم تعرف أيضًا سبيلًا لعزل الحاكم أو سحب البيعة منه، بل لا يجوز الخروج على الحاكم حتى «لو سرق مالك وجلد ظهرك»، والبيعة هى كمن باع للحاكم نفسه فى المنشط والمكره، ولا يجوز الخروج عليه لمرض أو هرم إلا بكفره كفرًا بواحًا، وفى هذا فقد صعّبوها حتى على من كان يصلى بالناس من الولاة سكران فلم يسحبوها منه أو يعزلوه، فقد اعتبروه عاصيًا وليس بكافر.
وتاريخ انتقال السلطة بعد الرسول كان «فلتة» حين انتقل الحكم إلى أبى بكر الذى أوصى من بعده بالخلافة لعمر، ثم جعل عمر الخلافة فى ستة من بعده بعد طعنه، حتى قيل إنه «اختيار يفرض اختيارًا» وقُتل عثمان حين رفض التنازل عن حكم قد ألبسه الله له، واعتبروا الخروج عليه خروجًا عن ربقة الدين، وبايعوا عليًّا بيعة الضرورة، وقُتل على وبويع معاوية وتحولت الخلافة إلى ملك عضوض فى بنى أمية، ثم اغتصبها العباسيون بعد أن استأصلوا شأفة بنى أمية وطاردوهم حتى بلاد المغرب وقتلوهم وصلبوا جثث خلفائهم، حتى دولة المماليك فى مصر والشام والحجاز فإن انتقال الحكم كان الفصل فيها للسيف، وكان صاحب القوة ينصب نفسه سلطانًا على البلاد، وكان الأمر أكثر حدة فى بعض الخلافات، فلم تقم إلا بإبادة شعوب وجنسيات بأكملها، بل لم يقف الأمر عند هذا بل كان من الخلفاء من قتل إخوته الذكور حتى يستقر له الحكم.
ولم تكن الدولة الدينية الحديثة بعيدة فى منهجها عن مثيلاتها منذ قرون مضت، تكرار ممل لما حدث متلازم ولا ينفصل، السيف هو الفيصل، والقتل هو الوسيلة للوصول للحكم، طالبان وداعش وإيران وغيرها وما هو قادم منها غدًا، حتى وصل الأمر بالشعوب المحتلة منها إلى الترحم على العهود السابقة فاسدة كانت أو ظالمة، فقد كانت النار أشد إيلامًا من الرمضاء، إلا أن هؤلاء لهم حسبة أخرى وهى أن قيام الدولة الدينية هدف فى حد ذاته وليس وسيلة، ويغفر لها كل ما تقدم من ذنوب ومن معاصٍ ارتكبها أصحابها أو دعاتها، حتى لو قُتل تحت لوائها أكثر مما قُتل تحت لواءات كل الظالمين.
«الدولة المدنية هى الحل»
تقلا عن المصرى اليوم