القمص يوحنا نصيف
هذه الأرض من الواضح أن تُربتها صالحة للزراعة، ولكن للأسف تَوَاجُد الشوك بها قد أثّر على خصوبتها، فلم تَعُد صالحة لنمو البذار.. وهذا هو حال الإنسان الذي أعطاه الله قلبًا جيِّدًا ولديه ميول طيِّبة واستعداد روحي، ولكنّه تهاون وسمح لأشواك الخطيّة أن تدخل حياته، فانتشرَت واستهلكَت كلّ طاقاته، حتّى أنّ بذور كلمة الله عندما تنزل على قلبه تختنق من كثرة الأشواك، وتصير غير قادرة على النمو.
هناك خدعة خطيرة أحيانًا يروِّج لها الشيطان في عقول الناس، ملخّصها أنّنا نستطيع أن نجمع في أرضنا الخصبة بين الأشواك والنباتات الجيِّدة.. فيُمكن أن يكون وقتنا مثلاً مُوَزَّعًا بين "ساعة لقلبك وساعة لربّك"، بمعنى أنّ اهتماماتنا يكون بها جزء روحي مع اهتمام موازي بالمظاهر وإشباع شهواتنا.. وفي الحقيقة أن النتيجة الحتميّة لهذا الوضع الخاطئ هي اختناق الجانب الروحي فينا، فلا تظهر أيّة ثمار طيِّبة في أرضنا!
أوضح السيِّد المسيح في تفسيره لمَثَل الزارع أنّ الأشواك على ثلاثة أنواع: هموم هذا العالم.. غرور الغِنى.. شهوات سائر الأشياء.. (مر4: 19).
في هذا المقال سنشرح بتركيز كلّ نوع من الأشواك، ونأخُذ الدواء المضاد له من آيات الإنجيل؛ التي ستساعدنا على محاصرة الشوك وإبادته.
1- هموم العالم:
يلزمنا أولاً أن ندرك الفارق بين الاهتمام والهمّ.. فالاهتمام معناه الانتباه والتركيز والالتزام في تحمُّل المسئوليّة، من أجل إنجاز المهمّة الموضوعة علينا. وفي هذا الاهتمام نطلب معونة الله، ونعمل أقصى ما نستطيع بدون تراخي، مع تسليم كلّ شيء في يد الله الذي يساند ضعفنا بقوّته العجيبة.. أمّا الهَمّ فهو الانشغال الزائد بكلّ شيء، بما في ذلك الأمور المستقبليّة أو الخارجة عن إرادتنا، بينما الله غائب عن حساباتنا تمامًا.. وهذا الهَمّ بالطبع يوَلِّد الخوف والانزعاج والتوتُّر، وأحيانًا أيضًا القلق والاكتئاب والحُزن..
يكشف لنا السيِّد المسيح في تفسيره للمثَل أنّ هموم العالم من الأشواك الخطيرة التي تخنق الكلمة، فتصير بلا ثمر في حياتنا.. فالهموم تشغلنا عن التأمُّل في الكلمة، وتَطغَى على الأفكار الروحيّة التي نتغذّى بها.. كما أنّ الهموم ضدّ الإيمان، وبدون الإيمان يستحيل أن تُثمِر كلمة الله فينا، لأنّ الإيمان هو الثِّقة في صدق الكلمة والسلوك بحسب ما تقول.. فإذا تكاثرت الهموم علينا دون أن نرميها أوّلاً بأوّل على الله، سيضعُف الإيمان وتختنق البذار الروحيّة فينا!
لنضع هذه الآيات الجميلة أمامنا باستمرار، حتّى لا تتكاثر علينا الهموم في يومٍ من الأيام، وتخنق صوت الله فينا:
ألقِ على الرب همّك، فهو يعولك" (مز55: 22)،
مُلقين كلّ همِّكم عليه، لأنّه هو يعتني بكم" (1بط5: 7)،
تعالوا إليّ يا جميع المُتعَبين، والثقيليّ الأحمال، وانا أريحكم" (مت11: 28).
2- غرور الغِنى:
المال هو وسيلة للتعايش في هذه الحياة الأرضيّة.. ولكنّ الخطورة أنّنا قد لا ننتبه أنّ المال أحيانًا يتحوَّل إلى هدف، مع أنّه لا يصلُح أن يكون هدفًا لأنّه زائل.. كما أنّ المال عندما يتعلّق القلب به ويحبّه يبدأ في الانحراف إلى الكثير من الشرور، مثل الغرور، والقساوة، والطّمَع، وحُب المظاهر، والتعالي على الآخَرين، وأيضًا محبّة الكرامة والشُّهرة والمتّكآت الأولى والنصيب الأكبر.. وكلّ هذه أشواك متشابكة تخنق بذور الكلمة التي تنزل على القلب فلا تأتي بثمر!
عندما تتسلّط محبّة المال على القلب، سيأخذ المال الأولويّة مكان الله، ويصير الانشغال بزيادة الأرصِدة، وإدارة الأموال، وتلميع المظهر، طاغيًا على الاهتمام بتنفيذ وصايا الله، ونمو محبّته في القلب.. فعندما تنزل بذور الكلمة في القلب تختنق؛ إذ أنّ كل طاقة الأرض تسحبها أشواك غرور الغِنى!
لذلك نحتاج أن نضع هذه الآيات الهامّة أمامنا دائمًا، ونعيش بها، لكي نحفظ أرضنا من أشواك غرور الغِنى:
مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ" (1تي6: 10)،
وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ الْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجًا، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ اللهِ فِيهِ؟" (1يو3: 17)،
لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ" (عب13: 5)،
وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ" (رو12: 10).
3- الشهوات واللذّات:
هذا النوع من الأشواك هو نوع خطير جدًّا إذ أنّه يتكاثر بسرعة وبشراهة حتّى يبتلع كلّ مساحة الأرض، ويمتصّ كلّ طاقتها، فتفقد القدرة على إنتاج أي محصول جيِّد مهما ألقينا فيها من بذار.. إذ تختنق أولاً بأول!
الإنسان الذي تتسلّط عليه الشهوات الجسدانيّة، يَصعُب أن تنمو في قلبه كلمة الله أو تُثمِر في حياته..
مثل الذين يحبّون الشراهة والتلذُّذ بأصناف الماكولات..
أو الذين يسلِّمون أنفسهم لشهوات النجاسة، فتتلوَّث أذهانهم وحواسهم، وتتشوَّه نظرتهم لِمَن حولَهم، ويفقدون صوابهم فيسقطون في تصرُّفات بهيميّة، ويصيرون عبيدًا للدنس، يلهثون باستمرار وراءه مَسلوبي الإرادة، وبالطبع كلّما يشربون من هذا المستنقع يزدادون عطشًا أيضًا!
أو الذين يرغبون في الكرامة الأرضيّة ويسعون إليها بكلّ الوسائل، ويتصارعون لأجلها، ويحزنون ويتألّمون جِدًّا إذا غابت عنهم!
أو الذين يتلذّذون بالسُخرية من الناس أو بالأحاديث المملوءة بالتهكُّم والإدانة..
هؤلاء وغيرهم من المَغلوبين من شهواتهم، يصعب جدًّا أن تنمو كلمة الله في حياتهم أو تأتي بثمر، لأنّ أشواك الشهوات والملذّات تخنق الكلمة تمامًا، فلا تأتي بأيّ ثمر، مهما كانوا متواجدين باستمرار في الكنيسة، ويسمعون الكلمة كثيرًا.. فأرضهم غير صالحة للزراعة بسبب الأشواك التي فيها..!
من أجل أن نكون محفوظين من هذه الأشواك اللعينة، لنزرع هذه الآيات الجميلة داخِل قلوبنا، ونلهج فيها باستمرار:
الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ" (رو13: 14)،
الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ" (غل5: 24)،
أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالسَّلاَمَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الرَّبَّ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ" (2تي2: 22)،
نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ" (تي2: 12).