د. مدحت نافع
قبل أيام من انطلاق الانتخابات الأمريكية الرئاسية والتى حسمت لصالح المرشح الجمهورى دونالد ترامب، وقّع أكثر من نصف الحائزين على جائزة نوبل فى الاقتصاد بالولايات المتحدة- وعددهم ٢٣ اقتصاديًا- على رسالة وصفت الأجندة الاقتصادية للمرشحة الديمقراطية «كامالا هاريس» بأنها «متفوقة بشكل كبير» على أجندة منافسها. وجاء فى الرسالة ما ترجمته «بينما لكل منا وجهات نظر متباينة حول تفاصيل السياسات الاقتصادية المختلفة، فإننا نعتقد أن أجندة هاريس الاقتصادية ستحسّن بشكل عام صحة أمتنا، واستثماراتها، واستدامتها، ومرونتها، وفرص العمل، والعدالة، وستكون متفوّقة بشكل كبير على الأجندة الاقتصادية غير المنتجة لدونالد ترامب»!. لكن الناخب الأمريكى كان له رأى آخر، إذ لقّن اقتصاديى نوبل درسًا فى عدم الاكتراث للنص المكتوب إذا لم تدعمه سياسات على الأرض، ولم توافقه إرادة حقيقية لمرشّح يتمتع بالقبول العام والمصداقية.

كانت السنوات الأربع الأخيرة واحدة من أسوأ الفترات الرئاسية الأمريكية على الإطلاق، فيما يخص ملفات الاقتصاد والسياسة الدولية والهجرة غير الشرعية.. تلك كانت فترة بايدن- هاريس والتى كان اختيارها للحلول محل شيخها بمثابة نصر محسوم للجمهوريين، بغض النظر عن المناظرة البائسة التى حللتها فى مقال سابق تحت عنوان «المناظرة الأهم والخاسر الأكبر» وجاء فيها: «كان ترامب يلعب بمبدأ من ليس لديه شىء ليخسره، فهو كما قال كتاب مفتوح، صحيح أنه كتاب يغص بالأفكار السلبية والمخيفة أحيانًا، لكنه بدا متصالحًا مع سوءاته، على عكس غريمته الديمقراطية التى كانت تخفى انفعالاتها خلف ضحكات عصبية سرعان ما تحوّلت إلى تجهّم وحدة فى النصف الثانى من المناظرة، عندما داهمها الخصم بوصفها أسوأ نائب رئيس فى التاريخ»..

الحزبان يمران بمنعطف تاريخى وفراغ مرعب وخلو من القيادات الصالحة للرئاسة، غير أن «ترامب» بكل تحيزاته لا يخفى ما يضمره كثير من الديمقراطيين من العدوانية والسلبية، وما يستترون خلفه من صوابية سياسية لم تعد سوقها رائجة فى الشارع الأمريكى، الذى يعانى من أزمات فى توزيع ثمار النمو، بما يعزز من تراكم الثروات بصورة مختلة، ويعمّق من أزمات الفقر الذى لا تعكسه بيانات سوق العمل بشكل منصف. ناهيك عن عثرات الاقتصاد العالمى الذى تحمل الولايات المتحدة أوزارها بحكم الهيمنة الدولارية وحجم الاقتصاد الأمريكى وتشابكاته وقنواته الناقلة للعدوى المالية.

الرئيس المنتخب الجديد العائد بسيطرة جمهورية على غرفتى الكونجرس، يتطلّع إلى استكمال السياسات التى اتبعها فى ملفات الضرائب والقيود الجمركية والسياسة الخارجية والهجرة غير الشرعية.. تلك السياسات التى تؤثر بكل تأكيد على توقعات معدلات النمو والتضخم وأسعار الفائدة والتوظيف.. إلى غير ذلك من مؤشرات الاقتصاد الكلى التى من شأن آثارها أن تمتد إلى سائر دول العالم. بورصات الأوراق المالية مبتهجة بعودة «ترامب» بينما تتراجع بورصات الذهب والأصول الصينية على خلفية احتمالات إيجابية لقيمة دولار (مدعومًا بتعريفة جمركية مرتفعة)، وتداعيات سلبية للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.

وقد أشار «ترامب» إلى أنه سوف يكثّف حربه التجارية، التى بدأها بالفعل خلال ولايته الأولى، حيث تم فرض ضريبة جمركية على ١٠٪ من الواردات الأمريكية (أبرزها الألواح الشمسية والصلب والغسالات والعديد من المنتجات الواردة من الصين). لكن فى الفترة الجديدة يعتزم ترامب فرض ضريبة جمركية بنسبة ١٠٪ على «جميع» الواردات الأمريكية، فى محاولة لحماية العمالة الصناعية الوطنية وسد العجز الخارجى.

ومن المتوقع أن يتعاون الكونجرس مع الرئيس لتمديد قانون «خفض الضرائب والوظائف» للأفراد ذوى الدخل المنخفض والأعلى، والذى سينتهى العمل به فى عام ٢٠٢٥. وتقدّر لجنة الموازنة الفيدرالية تكلفة تمديد القانون المذكور بمخصصات تبلغ ٥.٢ تريليون دولار حتى عام ٢٠٣٥. واقترح ترامب خفض معدل الضرائب المفروضة على الشركات إلى ١٥٪، نزولًا من ٢١٪ التى خفّضت إليها بالفعل من ٣٥٪ لدى تولّيه فترة الرئاسة الأولى. لكن التخفيضات الضريبية التى يعتزم ترامب تمريرها، تجعل الحكومة أكثر اعتمادًا على الديون فى تمويل عجز الموازنة (كما أكدنا فى مقال سابق).

ومن شأن سياسات ترامب أن تخفّض صافى الهجرة الوافدة إلى الولايات المتحدة من أكثر من ٣.٣ مليون العام الماضى إلى أقل من مليون وافد سنويًا. وقد لعب الوافدون دورًا فى زيادة المعروض من خدمات العمل، ونتيجة لذلك، توقف معدّل نمو الأجور، الذى كان يغذّى التضخم الحلزونى، كما زاد أثر مزاحمة الأمريكيين فى كثير من الوظائف. وشكل المهاجرون غير الشرعيين ما يقرب من ثلث إجمالى الزيادات فى فرص العمل فى الولايات المتحدة العام الماضى، أو حوالى مليون وظيفة. مع ذلك، تتوقع وكالة موديز أن التخفيضات الضريبية لترامب ستخلق حوالى ٤٥٠ ألف وظيفة أعلى من خطة الديمقراطيين بحلول عام ٢٠٢٨.

فترة رئاسية واحدة وأخيرة ربما تكون أقل تطرّفًا وتشنّجًا فى اتخاذ القرارات وإعادة تشكيل مراكز القوى حول العالم، وتتراجع خلالها فرص مغازلة اللوبى الصهيونى على حساب مصالح العرب والمسلمين، الذين بدا جليًا دورهم المتنامى فى حسم المعارك الانتخابية فى الولايات المتأرجحة. كما يمكن أن تشهد قرارات أكثر احترامًا لمخاطر تغيّر المناخ، كنتيجة مباشرة لتغير نسبى فى شخصية الرئيس المنتخب، متأثرًا بتغيير فريق عمله المحيط به. هذه الفترة يتطلّع خلالها العالم إلى أن تنحسر فيها تهديدات التشرذم والصراعات الإقليمية، لكنه يتطلّع أكثر إلى نظام دولى أكثر عدالة وتقديرًا لاحتياجات عالم الجنوب، ولو على حساب هيمنة اقتصادية أمريكية أضعف، نتيجة لسياسات الانكفاء حول الذات.

*كاتب ومحلل اقتصادى
نقلا عن المصرى اليوم