عادل يوسف


في 5 يونيو 2024 رأى شاب قبطي محب للكنيسة و المسيح، وسبق أن أرسل له السيد لمحة تشجيع مُفرحة، حلماً لقُدَّاسٍ كان يصليه الأنبا تواضروس الثاني، البابا 118 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وكان مِنَ القُدَّاسات التي يحضرها عادة شعباً غفيراً. وكان ذلك الشاب بين أفراد الشعب مع أحد أصدقائه في المقعد الأمامي للكنيسة.
 
في الحلم كان أغلبية الشعب في حالةٍ من الهرَجِ والصَخَبِ والإنشغال التام عن صلوات القُدَّاس، وكأنهم كانوا يَحْضرون عُرساً دنيوياً، حتى أن الأطفال كانوا يقفزون على المقاعد ويجرون في أروقة الكنيسة، وأحاديث الكبار لم تنقطع وكانت دون أدنى إكتراث بقُدْسِيَّة الكنيسة وصلوات القُدَّاس الإلهي.
 
وحدث أنه أثناء دَوْرَة الحَمَل وقَدَاسَة البابا كان يُصَلي: "مجداً وإكراماً، إكراماً ومجداً للثالوث القدوس، سلاماً وبنياناً لكنيسة الله ... أذكر يا رب الذين قدموا لك هذه القرابين ..."، وحان دَوْر الشماس داخل الهيكل ليَتْلُو مَرَد: "صلوا من أجل هذه القرابين المقَدَّسة الكريمة ..."، أن أَحداً من داخل الهيكل لم يَرُد على طلبة الأب البطريرك، رغم وجود العديد من الشمامسة وعدد من الأساقفة والكهنة داخل الهيكل.. بدا واضحاً أنه حتى مَنْ كانوا داخل الهيكل كانوا قد إنشغلوا هم أيضاً عن ذبيحِهم ورب كهنوتِهم وشموسيتِهم، ولم ينتبهوا لخدمة مَنْ كان سبب دعوتهم الأصلي! فما كان من الصَديق إلا أنه أَسرع وقَدَّمَ ميكروفوناً لصاحبِ الحلم وطَلَب مِنه الإسراع بتلاوة المَرَد بَدلاً مِن شمامِسة الهيكل كي لا يتعطَّل القُدَّاس. 
 
عند تلك اللحظة وصل حُزْن وأسى قَدَاسَة البابا إلى مُنتَهاه، فمد يده وسحب سِتْر حامل الأيقونات مغلقاً إياه، عازلاً الغير مكترثين والصاخبين والمنشغلين عن القربان المقدس خارجاً.. وبعدها إنطفأت الأنوار خارج الهيكل وميكروفونات الكنيسة، ولكن قداسة البابا لم يُوقِف القُدَّاس الإلهي، بل إستكمله داخل الهيكل، وسمعه الصديقان من خلف السٍتر.
 
كان هذان الصديقان يشعران أيضاً بأسى شديد بسبب ما كان يجري حولهما، وبسبب تقاعس خدام الهيكل عن أداء واجبات دعوتهم المُقَدَّسة. وظل الصديقان منتظرَين لبعض الوقت متألمَين، ولكن بعدها تقدما معاً نحو طبق قربان الحمل المتبقي خارج الهيكل، وأخذا قربانةَ حَمَلٍ كاملةٍ .. وعند ذلك انتهى الحلم.
 
بعد يومين مِن سماع محتوى الحلم تَذَكَّرتُ طَرْد السيد المسيح للتُجَّار والصيارفة وباعةَ الحمامِ من الهيكل، ورفْضه أَنْ يجعلوا بيت أبيه مَغارة لصوص!
 
يُلَقَّبُ بطريرك الكنيسة بـ"رئيس الكهنة"، والسيد المسيح هو "ميغالوأرشي إيريفس" أي: "رئيس الكهنة الأعظم". السيد المسيح طَرَدَ الغير مكترثين بقُدْسِيَّة هيكل أبيه الصالح منه، وبعد بضعة أيام بحسابات زمن البشر، بذبيحة نفسه، عَزَل كهنةِ عهدٍ كان قد "عَتَقَ وشَاخَ" (عب 8 :13)، وبَدَأ عهداً جديداً واعداً محبيه بإستكمالِه معه أبدياً في مَلَكوتِه.
 
السيد المسيح أنهى عهداً قديماً ولكنه أكمل الناموس ولم يهدمه، وأعطى مُحِبيه عهْداً جديداً أبدياً للسلام والحياة. البابا تواضروس لم يُنهِ القُدَّاس بل أَكمَله داخل الهيكل الذي هو رمزٌ للسماءِ الجديدةِ، ولكن بمَعْزِلٍ عن المخالفين لأنهم لم يُحسَبوا مستعدين لعشاءِ عُرس الخروف، ولأنه لم يكن ممكناً وَضْع رُقعة جديدة (الخليقة الجديدة بالإفخارستيا) على ثوبٍ عتيقٍ (الخليقة العتيقة التي تحيا موتها ولَهْوها السَرَابِي)، وأَكْمَل قَدَاسَته القُدَّاس بدون ميكروفون لكي لايُعطيَ "القُدْس للكلابِ"، حسب وصية السيد نفسه!
 
الصَخَب والهرَج داخل الكنيسة والإستخفاف بالقُدْسات أثناء قُداس الحلم كان مؤشرا لحالة خطيرة. غَلْق السِتْر وإطفاء الأنوار وعزل أصوات الصلوات القادمة من الهيكل كان عَزْلاً لشعباً مبتعداً بإرادته بعيداً، فصاروا في الظلمة الخارجية كنتيجة طبيعية لإختيارات نفوسهم. 
 
علاوة على صخب الحياة عامةً، فإن الصخب الدائر في كنيستنا هذه الأيام قد أصبح أمراً مُؤسِفاً ويُمزِّق جسد المسيح الواحد.. ولبعض الصفحات والأصوات والأقلام ذات الأهواء أَقول: "لا تَسْتَكبِر بل خَفْ"! (رو 11 : 20)، لأننا رُبما "أَصْبَحنا مَنْظَراً للعالم" (1 كو 4 :9)؛ بعدما كنا نموذجا ومَلْحاً ونوراً. هل يمكننا الأن أن نكلمهم عن المحبة والسلام والوحدة؟! 
 
دعوني أهمس في آذان البعض بمحبة المسيح، لو أن المذبح أراد رئيس كهنة بفكر وأسلوب مختلفَين عما لقداسة البابا تواضروس يوم القرعة الهيكلية في 4 نوفمبر 2012، ألم يَكُن قادرا على اختياره؟! 4 نوفمبر أيضاً هو نفس يوم ميلاد قداسته، كما أَنَّ معنى اسم "تواضروس" هو "عطية الله" أيعني ذلك كله شيئاً؟!.. بأشكال شتي السماء تخاطبنا: "هذا هو رئيس كهنتكم الذي إخترتُهُ لكم".. مَن إختار البابا تواضروس هو نفسه مَن اختار سابقيه. ومَنْ اختاره مازال موجوداً ومستيقظاً؛ لم يغفو، وليس في خلوةٍ أو سفَرٍ!
 
لتدبير الخدمة، أُذَكِّرُ مَنْ له أُذنان أَنَّ:".. ثَمَرُ الْبِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ .." (يع ٣ : ١٨).   ولخلاصنا وسلامنا الداخلي: "اهرُب لحياتك... ولا تقف في كل الدائرة" (تك 17 - 19)؛ دائرة التشويش والصخب.. لئلا يدركنا الصوت: "أَعْطِ حساب وكالتك" (لو 16: 2)؛ وكالتك أنت وليس وكالة بابا الكنيسة أو كاهنها أو أسقفها!.. لعلنا نُكمل قُدَّاس حياتنا بخوف الله حتى لانخجل حينما نراه، بل نشترك معه على مائدتِه في ملكوتِه "نيمي، نيمي، نيمي".
 
الإنشغال واللهو - كما في الحلم - ما هو إلا مشاركة للعالم التائه الضعيف الهزيل في نظرتهم للصليب وللخروف المذبوح على أنهما ضعف وجهالة وفلسفة، وليس حياة عابرة للأبدية بلا موانع في الحي إلى أبد الأبدين بشركة الجسد الواحد، لا بثمرات عقولنا وأهواء ذواتنا الملبسة الموت، ولا بتقسيم الجسد الواحد!
 
"يا ذاكري الرب: لا تسكتوا، ولا تَدَعُوهُ يسكتُ.." (إش 62: 6 - 7)، حتى يَكمُل العبيد رفقائكم. إستمروا في تضحياتكم ووداعتكم ومحبتكم وصبركم، وأيضا في توقيركم لمن هو رئيس الكهنة المنظور، وكيل "ميغالو أرشي إيريفس".. اجتهدوا أن تُجَدُوا "بلا لَوْمٍ قُدَّامهُ في المحبة" (أف 1 : 4).
(Adel Abdelmalak) - خادم قبطي، أستاذ سابق بالولايات المتحدة