القمص يوحنا نصيف
    المزمور الثالث من سِفر المزامير، والذي نصلِّي به في صلاة باكر كلّ يوم، من المزامير المُعزّية جدًّا للنفس.. إذ كتبه داود النبي بإرشاد الروح القدس، وتَغَنّى به، وهو في ظروف صعبة للغاية، عندما هاج عليه ابنه أبشالوم، وقام ضدّه ليقتله ويأخُذ منه المملكة.. ولكن داود هرب منه، ولجأ إلى الله بالصلاة والبكاء والتضرُّع، واثقًا أنّ عنده وحده الخلاص (2صم15-18).. هنا تظهر قوّة الإيمان بالله، في مثل هذه المواقف القاسية!

    لنتأمّل قليلاً في كلمات هذا المزمور الجميل:
    + "يارب لماذا كَثُرَ الذين يُحزنونني؟ كثيرون قاموا عليّ" هذا التساؤل يكشف أنّ داود يمرّ بضيقة صعبة، تحيط به من كلّ ناحية.. ولكنّه ليس له ملجأ إلاّ الله، يشكو له، ويحاول أن يفهم منه معنى ما يحدث.. هكذا نحن عندما يحيط بنا الأعداء من كل ناحية، لا نلجأ إلاّ إلى الله، لأنّه ليس لنا معين في شدائدنا وضيقاتنا سواه، فنصلّي واثقين أنّ "إلهنا يحارب عنّا" (نح4: 20)، وأنّه "إن كان الله معنا، فمَن علينا" (رو8: 31).

    + "كثيرون يقولون لنفسي ليس له خلاص بإلهه" هذه أصوات غير المؤمنين، الذي يتّكلون على قوّة المال والسُّلطة والعلاقات وذراع البشر، ويشكِّكون في محبّة الله وقدرته على التدخُّل وتغيير مجرى الأمور.. أمّا نحن المؤمنين فليس لنا خلاص إلاّ بإلهنا، ولا نهتزّ أبدًا لأصوات المُشكِّكين أو الساخرين، بل نحن مطمئنّون لأنّ "الحرب للرب" (1صم17: 47)، وهو قادر على حماية شعبه الذي يتّكِل عليه.

    + "فأنت يارب، أنت هو ناصري. مجدي ورافع رأسي" هكذا نؤمن أنّ الله هو قوّتنا ونصرتنا.. هو يحمينا ويسترنا.. هو لا يدَع عصا الخُطاة تستقرّ على نصيب الصدِّيقين.. هو مجدُنا الذي نفتخر به، وهو الذي يسندنا ويُنجِح طريقنا.. فمهما كانت شراسة العدو الذي يريد أن يكسرنا ويذلّنا، فالله يحمينا ويرفع رأسنا بالمجد والكرامة.. وهذا ما تطلبه الكنيسة من الله لكلّ الشعب، في البركة الختاميّة الكبيرة للصلوات الليتورجيّة، إذ يقول الأب الكاهن: "ارفع شأن المسيحيين بإشارة الصليب المُحيي. احفظهم في الإيمان المستقيم بالمجد والكرامة كلّ أيّام حياتهم..".

    + "بصوتي إلى الرب صرختُ، فاستجاب لي من جبل قدسه" هذه الآية تَكشِف عن ثِقة هائلة في أنّ الله يسمع ويستجيب، وبالذّات إذا قُدِّمَت الطِلبة في بيته وأمام هيكله المقدّس.. حتّى ولو لم تكُن الاستجابة قد تُرجِمَت بشكل فِعلي ظاهر الآن، فنحن نثِق أنّ الله سمع صوت صراخنا واستجاب، وستظهر الاستجابة في الوقت الذي يراه هو..!

    + "أنا اضطجعت ونمت، ثم استيقظت، لأن الرب ناصري" الكنيسة تعتبر هذه الآية نبوّة عن موت المسيح وقيامته، وغلبته للموت.. كما أنّ هذه الآية تؤكِّد أنّ النهاية ستكون سعيدة لأولاد الله، حتّى لو مرّت بهم فترات مُظلِمة، فالنور سيُشرِق، والرب سيُظهِر فينا قوّته ومجده..!

    + "فلا أخاف من ربوات الجموع المحيطين بي، القائمين عليّ" فمهما كانت أعداد الجموع المُضادّة لنا بعشرات الآلاف، فنحن لا نخاف أبدًا، بل نرتّل أيضًا مع داود النبي قائلين: "إن سلكت في وسط ظلال الموت، لا أخاف شرًّا، لأنّك أنت معي" (مز23: 4).

    + "قُم يارب، خلِّصني يا إلهي، لأنّك ضربتَ كلَّ مَن يعاديني باطلاً. أسنان الخطاة سحقتها" هنا يطلب المرتّل أن يُظهِر الله قوّته، فهو بالفعل مخلّصنا وفادينا من كلّ ضيقة.. أمّا أسنان الخطاة التي تشتهي أن تنهشنا فهو قادر يسحقها تمامًا، مهما كانت صلابتها..!

    + "للرب الخلاص، وعلى شعبه بركته"  ختام جميل للمزمور يؤكّد فيه معلّمنا داود النبي ثقته في قدرة الرب على إنقاذه.. فهو قد لجأ إليه، ولم يفكِّر أبدًا في ردّ الشرّ بالشرّ.. لذلك فإنّ الله دائمًا ملتزم بتحقيق الخلاص لشعبه، بل وأيضًا يفيض عليهم ببركته، ويحوِّل كلّ الأمور لخيرهم..

    ليكُن هذا المزمور موضوع تسبيحنا وتأمّلنا كلّ يوم، فنفرح دائمًا بخلاص الرب العظيم، وبركته الفائضة علينا..
القمص يوحنا نصيف