حلمي النمنم
حين ترجم رفاعة رافع الطهطاوى، رائعة فينلون «مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك»، تعذر عليه نشرها هنا فى القاهرة، كان الطهطاوى يريد أن يقدم للقارئ المصرى والعربى نموذجًا لفن القصص المعاصر وكذلك مغامرة ثقافية منه، كانت المضايقات والأحقاد الشخصية والتربص السياسى به شديدة، لم تغن عنه قصائد المديح فى الخديو وولى عهده.

أراح الطهطاوى الجميع، فقام بنشرها فى لبنان، ولم تثر ما أثارته أعماله الأخرى.

الموقف نفسه تعرض له فى النصف الأول من القرن العشرين د. طه حسين، إذ تعذر عليه نشر «المعذبون فى الأرض» هنا فى كتاب، اعتبرها «القلم السياسى» وقتها، مجموعة تتبنى الافكار الماركسية، لم تكن كذلك، كانت قصص المجموعة تتحدث عن «العدالة الاجتماعية»، التى كانت الحكومات المصرية لا تعاديها منذ الحرب العالمية الثانية، بل إن الملك فاروق بنفسه نادى بها فى خطاب العرش، أكتوبر سنة 1944، وكانت معظم قصص المجموعة نشرت مفردة على صفحات مجلة «الكاتب المصرى»، هنا نشرت المجموعة أول مرة فى بيروت، بل إن لبنان احتضن د. طه حسين لمدة ثلاثة شهور سنة 1952، محاضرًا ومقيمًا بعد أن ازداد التحرش السياسى به إثر إقالة حكومة الوفد، عقب حريق القاهرة وكان وزيرًا بها.

تكرر الموقف كذلك فى الستينيات مع رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»، إذ تعذر نشرها فى كتاب، رغم أنها نشرت مسلسلة فى «الأهرام »، تحمس الراحل سهيل إدريس صاحب «دار الآداب» للرواية وقام بنشرها، ارتضى الرئيس عبدالناصر نفسه ذلك المخرج، ظلت «أولاد حارتنا» تُطبع فى لبنان حتى سنة 2005، حيث طبعت فى القاهرة لدى دار الشروق.

لبنان كان دائمًا متنفس العالم العربى، بلد التعدد والتوازن الطائفى والمذهبى والسياسى، يُمتدح فيه الإمام على، رضى الله عنه، دون مساس بأى صحابى أو تابع، يعيش فيه المارونى مع الدرزى والسنى الى جوار الشيعى، البلد الأكثر انفتاحًا على الغرب، فرنسا خاصة، بلا انبهار ولا شعور بالدونية ودون قطيعة مع المحيط والثقافة العربية، بل انفتاح على التراث العربى والإسلامى، جورجى زيدان المسيحى الأرثوذكسى يكتب مدافعًا عن الحضارة العربية/الإسلامية، جورج جرداق الشاعر المارونى يضع موسوعة عن الإمام على، كرم الله وجهه، فيروز (المارونية ) تغنى لمكة وأهلها، كما تنادى قارئ القرآن.

احتضن لبنان الأفكار الجديدة بلا خوف وبلا قلق، قدم لنا عبدالرحمن بدوى الوجودية فى الأربعينيات، لكن بيروت صارت الميدان الأوسع للنقاش وللجدل حولها وصدور المؤلفات عنها.

التعدد والتنوع خلق توازنه الخاص جدًا، توازن بين المؤسسات والمواقع المهمة، لا تطغى مؤسسة كهنوتية على الجميع وتعتقل الروح والعقل بادعاءات كاذبة ولا مؤسسة سياسية أو إدارية تحتكر القرار والفعل، هذا التوازن يقوم على التراضى والقبول من جميع الأطراف، يقره ويحترمه الجميع، سواء كانوا فى الداخل اللبنانى أو من الأطراف المجاورة، فضلًا عن القوى الإقليمية والدولية، لا يحتمل الصغار ولا العبث، كما أنه لا يتقبل استقواء بالخارج، أيًّا كان.

التعدد والتنوع يصبح خلاقًا ودليل ثراء، إذا جرت حمايته بإطار قانونى صارم مع وعى اجتماعى وسياسى عميق، لأنه يمكن أن ينقلب إلى استقطاب وربما نفور وكراهية.

واقع الحال أن هذا التوازن لم يتم صيانته، حين قرر العالم العربى أن يفرض على لبنان أن يستضيف المقاومة الفلسطينية. دعم المقاومة عربيًا مهم، لكن كان يجب الابتعاد عن لبنان تحديدًا، لسببين، داخلى وخارجى.

الداخلى أن القوات الفلسطينية وأسرهم، هم فى النهاية مسلمون سنة، وهذا أثار مخاوف كامنة لدى فريق من الموارنة، اشتعلت تلك المخاوف مع بعض التجاوزات ومظاهر التسلط من«الضيوف» المحبطين أصلًا بسبب ضياع وطنهم.

الخارجى أن وجود المقاومة فى لبنان يعنى أن تنشط المخابرات الإسرائيلية داخل لبنان بكل وسائلها، وحين نقول المخابرات الإسرائيلية فهذا يعنى بالضرورة وجود نظيراتها الأمريكية والبريطانية والفرنسية وفى المقابل الروسية. هذا النشاط سوف يحرك على الفور سوريا، حين كان حافظ الأسد على رأسها ومعه صقور حزب البعث، ثم دخل لبنان مرحلة تصفية رموز الاعتدال والتعايش، اغتيال الزعيم كمال جنبلاط نموذجًا، فيما بعد سوف يتم اختفاء الإمام موسى الصدر، ثم يجرى اغتيال الرئيس رفيق الحريرى.

توترات وجود المقاومة الفلسطينية، مع عوامل أخرى أدت إلى نشوب الحرب الأهلية سنة 1975، التى تبلورت فيها كل صراعات الكرة الارضية، وجدت إسرائيل فرصتها الكبرى فتدخلت على المكشوف بتكوين مليشيات أو قوة مسلحة موالية لها، ثم كان أن اجتاحت بيروت سنة 1982، قاوم اللبنانيون ببسالة شديدة، فشلت إسرائيل وخرجت، كما تم إخراج الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات ومعه قواته إلى تونس، ثم وقعت مذبحة صبرا وشاتيلا.

تدخلت المملكة العربية السعودية بثقلها حتى تم توقيع اتفاق الطائف سنة1989، وانتهت الحرب الأهلية، لكن بقيت ذيولها، إسرائيل ظلت محتفظة بمواقع لها فى الجنوب، وكان من المتوقع أن يكون هناك تصدٍّ لذلك التواجد، لم يكن هناك جهد سياسى كافٍ لإخراج الإسرائيليين، كان الكل منهكًا، وهناك من أراد ترك هذه الثغرة استعدادًا لجولة قادمة، بما يعنى عدم العودة إلى التوازن والتراضى القديم.

وكان أن تشكل حزب الله بدعم إيرانى كامل، الحزب أخذ على عاتقه تحرير الجنوب، فى النهاية انسحبت إسرائيل بمبادرة ذاتية، ولم يعقبها جهد سياسى لوضع النقاط على الحروف، اعتبر الحزب أنه حقق نصرًا إلهيًا ولا صوت يعلو على صوته، عمليًا اختزل الحزب الدولة وصار بديلًا عنها، ثم إنه كان وراء تفجير علاقات لبنان العربية لصالح طرف خارج العالم العربى، ودخل فى مواجهات مع إسرائيل، لمتعطشة دومًا للقتل وللهدم، فضلًا عن أنها تتمتع بغطاء أمريكى مطلق.

لا ينبغى لأحد أن يتصور أن إسرائيل تتحرك بعيدًا عن الولايات المتحدة فى هكذا أزمات، كان ياسر عرفات شخصيًا فى مرمى النيران الإسرائيلية سنة 1982، لكن إدارة ريجان رفضت السماح بالاقتراب منه، فخرج سالمًا، وفى سنة 2006 لم يكن السيد حسن نصر الله بعيدًا عن مرماهم، لكن لم يكن هدفًا أمريكيًا، هذه المرة دوره كان انتهى.

اليوم صار لبنان ميدانًا لغارات إسرائيلية لا تتوقف، صحيح أن الحزب نجح فى الاقتراب حتى من غرفة نوم نتنياهو، مسيّراته تذهب إلى كل مكان فى إسرائيل، لكنه فشل فى حماية سماء لبنان وقراه، دعنا من حماية قياداته وكوادره ومقراته الحصينة.

فى آخر زيارة إلى بيروت سمعت من أستاذ جامعى قدير: «سلاح المقاومة يحمينا كلنا»، وقد أثبتت التجربة عدم دقة هذا التصور، الطائرات الإسرائيلية تعربد فى كل مكان، كل المواقع مكشوفة تمامًا لديهم، ليس اختراقًا مخابراتيًا يمكن سده، بل انكشاف كامل.

فى كل ذلك يسدد لبنان فواتير غير مستحقة عليه، فقط تم توريطه بها. الغارات الإسرائيلية وصلت حتى بعلبك حيث التراث الحضارى والتاريخى العظيم، كل ذلك فى ظل دولة معطلة سياسيًا، لا يوجد رئيس للجمهورية منذ حوالى عامين، الحكومة مؤقتة، حكومة تسيير أعمال، الأزمة المالية خانقة منذ فترة، أكثر من مليون مواطن ومواطنة خارج بيوتهم وخارج مناطقهم، من الناحية العملية العالم يبارك كل هذا، بذريعة حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، صحيح هناك بعض مصمصات الشفاه وبعض الدموع، لكن لا شىء أكثر من ذلك.

هناك مساعدات تم إرسالها من بعض الدول العربية، مصر والإمارات العربية وغيرهما، بل إن المملكة العربية السعودية أرسلت جسرًا جويًا من المساعدات، قيمة هذه المساعدات ليست فى المواد الغذائية التى تحملها، لكن كما سمعت من مفكر لبنانى مرموق هى تعنى أن لبنان ليس وحيدًا والأشقاء لن يتركوه فى محنته.

لا يحتمل لبنان أن يصبح غطاء لمعارك أو طموحات وأحلام أطراف خارجه.

الشارع اللبنانى تململ وخرج غاضبًا إلى الشارع، نتذكر شعار «كلن يعنى كلن»، فتدخل السيد ليجهض كل ذلك، ثم.. ثم.

لبنان لا يصح إلا أن يكون مستقلًا، يحتفظ بتوازنه وتعدديته.

لبنان البلد الناعم كالحرير، شديد الصلادة فى الوقت نفسه، لا يستحق كل ذلك وهو قادر على أن يسترد عافيته ويستعيد إشعاعه.
نقلا عن المصري اليوم