د. ســامـح فــوزى
الحفاظ على المؤسسات توجه أساسى للدولة المصرية، وهو يعبر عن إدراك عميق وسط بيئة إقليمية مضطربة، وتحديات داخلية متزايدة. ولا يحتاج الأمر إلى شرح أو تفصيل، فالمشهد واضح، والمجتمعات التى أخفقت فى الحفاظ على مؤسساتها تشهد صورًا من التفكيك، والتداعى الاقتصادى، وانتهاك حقوق الإنسان، وأزمات صحية وغذائية متفاقمة. والمقصود بالمؤسسات، ليس فقط الكيانات الحكومية، ولكن أيضا المؤسسات الدينية والاجتماعية والثقافية، لأنها تلعب دورًا مهما فى الحفاظ على هوية وتماسك المجتمع، وتسد جانبا مهمًا من احتياجاته المادية والمعنوية. هناك الأزهر والكنيسة القبطية، وكلاهما ضارب الجذور فى التربة المصرية، له تاريخ وتراث عميق، وهناك هيئات ثقافية تجاوز عمرها مائتى عام مثل المجمع العلمى المصرى، وجمعيات أهلية تخطى عمرها مائة وخمسين عامًا، وأندية رياضية تأسست منذ أكثر من قرن. هذه مجرد أمثلة على مؤسسات مصرية عريقة، نشأت قبل قيام عدد من دول المنطقة، الحفاظ عليها ضرورة وغاية وطنية، خاصة عندما تحيط بها عوامل التفكيك، التى نندفع إليها بوعى أو بدون وعي. أقول ذلك على خلفية نقاشات ومساجلات على مواقع التواصل الاجتماعى فى الفترة الأخيرة، استشعرت خطورتها، وعدم إدراكها لأهمية المؤسسات التى تتحدث عنها، واللافت أن الاشخاص الذين ينخرطون فى أحاديث ساخنة، ويقذفون اتهامات نارية، يتعاملون بمنطق «العلاقات الصفرية»، كما يقول علماء السياسة، أى نحن وهم، ولا يدركون أنهم جميعا فى رحاب مؤسسة واحدة إذا تبعثرت أوراقها لن تكون هناك مظلة يستظلون بها. معارك شخصية لا أكثر ولا أقل، تعبر عن احلام مجهضة، وطموحات مبعثرة، وتفتقر إلى آداب الحديث فى الشأن العام، حيث تغيب الدقة، والموضوعية، وتنتشر الشائعات والأكاذيب، وتنتفى روح المسئولية.

هناك واجب على مختلف مؤسسات المجتمع للحفاظ على كياناتها، وتماسكها، والحيلولة دون انفراط عقدها، وهى فى الأساس مسئولية قياداتها، والتشكيلات المؤسسية بها، والثوابت التى تستند إليها. بالتأكيد لا توجد مؤسسة أو كيان لا يعرف اختلافات أو تباينًا فى وجهات النظر، لأنه تنظيم بشرى، ولكن يظل السؤال: كيف يمكن استيعاب التنوع فى الآراء، والاتفاق على توجهات محل قبول عام؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست هينة، لأنها تشكل أساس بقاء المؤسسات. بالطبع لن تكون السوشيال ميديا، بانفلاتها، مجالا لبناء التوافق، لأنها تمثل واجهة الخلافات، والانقسامات، وإثارة الغبار. وفى كثير من الأحيان تنلفت النقاشات إلى حد غياب الحدود الفاصلة بين الصديق والعدو، بين الساعى إلى التطوير وبين من يحاول الهدم. يحدث هذا فى وقت تتكاثر فيه التحديات التى تغيب عن أذهان المتساجلين.

هناك على الأقل أربعة متطلبات أساسية للحفاظ على المؤسسات:

الأول: أن تسعى قيادات المؤسسات، بالمعنى الواسع، لبناء توافق من خلال حوار داخلى عميق، وأن تتولى مقاليد الحوار شخصيات توافقية، لها مصداقيتها فى بلورة أرضية مشتركة بعيدًا عن الاستقطاب.

الثاني: التأكيد على أهمية وجود قنوات مؤسسية ثابتة للحوار، وإدارة الاختلاف فى وجهات النظر، حتى يتم استيعاب أى تباين داخل المؤسسة، ولا يتسرب خارجها فى مساجلات تزيد شقة الخلاف، وتسبب بلبلة عند الناس.

الثالث: إدراك أن الحياة متجددة، لا يوجد بها ثبات، تحوى جديدًا باستمرار، وتظهر تحديات كل يوم. وتصير المعضلة الأساسية أمام كل شخص أو هيئة أو كيان: كيف يمكن استيعاب الجديد فى سياق الحفاظ على الموروث السابق؟ الجديد دائما مبهر فى الشكل، وقد يكون مبهرا فى المضمون، ولكنه ليس كذلك فى كل وقت، فقد يكون مهلكًا، وهو ما يستدعى نظرة عميقة، ونقاشًا موضوعيًا، والتخلص من المشاعر الذاتية السلبية.

الرابع: التاريخ هو الماضى، يحوى تراثًا وتقاليد وخبرات، لا يصح تجاوزه، أو التقليل من شأنه، أو إعلان الحرب عليه بدافع التطوير، كما لا يصح، على الجانب الآخر، التقوقع عنده، واعتباره شأنا مقدسًا لا يجب النقاش حوله. التصالح مع التاريخ، أيا كان، هو أساس الدخول من بوابة المستقبل، أما اعتبار التاريخ عقبة أمام التغيير، فإن ذلك فى حد ذاته كفيل باثارة الخلاف بين من يدافع عن التاريخ، ومن يسعى لتجاوزه، وتظل المؤسسة تغلى من داخلها، تشهد حالة صدام واضطراب، ورغبة من جانب كل طرف فى إثبات صحة موقفه، وتضيع فرص التعامل مع التحديات المتلاحقة، وتنفصل المؤسسة عن الواقع، وتفقد بوصلتها بمرور الزمن.

باختصار هذه خبرات مؤسسات نهضت، وأخرى تعثرت، ولم تكن نهضتها أو كبوتها إلا بفعل أبنائها، لأنه مهما استحكمت التحديات الخارجية، وأطبقت على أنفاس المؤسسة، أى مؤسسة، فلن تنال منها إلا إذا هانت على أبنائها، والمرتبطين بها عن قصد أو بدون قصد.
نقلا عن الاهرام