ياسر أيوب
منذ ١٩٩٠ وحتى الأربعاء الماضى فى لندن.. توالت بطولات ودورات أغرب وأصعب مسابقة رياضية فى العالم.. يجرى فيها المتسابقون ٢٤ ساعة متتالية مع حق التوقف السريع لشرب الماء وقضاء الحاجة.. وبدأت هذه المسابقة فى الثالث من فبراير ١٩٩٠ فى مدينة ميلتون كينز شمال غرب لندن.. ولم يتخيل أحد أن تستمر هذه السباقات وتنتشر رغم كل ما فيها من مشقة ومعاناة.

لكن رآها كثيرون بمثابة اختبار صعب لقياس مدى قدرة الإنسان على تحمل الإرهاق والألم.. وفيها اكتشف بعضهم أنهم أقوى مما تخيلوا وظلوا أوقاتا طويلة لا يدركون مدى القوة التى يملكونها وما تستطيعه أجسادهم.. وقال آخرون إن الفرحة التى يشعر بها من ينهى هذا السباق تستحق كل هذه المعاناة.. والذين لم يستطيعوا الاستمرار حتى النهاية عرفوا حدود صبرهم واحتمالهم ومتى يجب عليهم التوقف والاستسلام.

ولاتزال اليابانية ميهو ناكاتا هى حاملة الرقم القياسى للسيدات بعدما جرت العام الماضى ٢٧٠ كيلومترا فى ٢٤ ساعة.. وسبقها الليتوانى ألكساندر سوروكين وحقق فى ٢٠٢٢ الرقم القياسى للرجال بعدما جرى ٣١٩ كيلومترا.. وأضيفت هذه السباقات لدراما الجرى التى هى خليط من التاريخ والعلم والسينما.. فالجرى كان الرياضة الأولى للإنسان الذى بدأ يجرى إما لاصطياد حيوان أو للهرب منه.

وتحول الجرى فى العصور القديمة لأحد طقوس الاحتفالات الدينية فى مصر والصين واليونان قبل أن يصبح أحد التدريبات الأساسية للضباط والجنود.. وكان من ألعاب أول دورة أوليمبية فى العصر القديم التى أقيمت فى اليونان سنة ٧٧٦ قبل الميلاد.. وكان فى أول دورة أوليمبية فى العصر الحديث لعبة وحيدة اكتسبت معانى النبل والانتماء لأهل ووطن وبات أى سباق للماراثون سواء فى دورات أوليمبية أو بطولات عالمية بمثابة تحية دائمة للجندى اليونانى فيديبيديس الذى جرى فى ٤٩٠ قبل الميلاد ٤٠ كيلومترا من مدينة ماراثون إلى أثينا ليبلغ اليونانيون بانتصارهم على الفرس.

ولم يتوقف الجندى لحظة واحدة ليهدأ ويستريح وبمجرد إبلاغ قومه بالانتصار سقط على الفور ميتا من التعب والإرهاق.. وأثبت الطب منذ فترة طويلة أن الجرى من أكثر العمليات تعقيدا التى يقوم بها الجسد.. ولكى يجرى الإنسان فلابد من عزف جماعى للعظام والعضلات والمفاصل من الحوض إلى الركبة إلى القدم وكل ذلك بالتنسيق مع القلب ودورته الدموية والرئة لضخ مزيد من الأكسجين.. كما أصبح الجرى مرادفا لكثير من المعانى.

فالعمر يجرى والدموع تجرى والساعة تجرى والإنسان يجرى بحثا عن رزق وحلم وحب وحياة أفضل.. وأكدت سينما العالم دراما الجرى عبر ٧٢ فيلما دارت حكاياتها عن الجرى ومعانيه، قيمته وضرورة أن يجرى كل الناس.
نقلا عن المصرى اليوم