بقلم: أندرو اشعياء
بالرغم أن أمي كانت حزينة للغاية ومُرّة النفس جدًا إلا أن الرجل العظيم والقائد الرفيع المنزلة لم يميز تلك الروح السامية التي كانت لقلبها المُعتصر المُنْسكِب أمام الله، بل انه اندفع إليها بكثير من اللوم: «حتى متى تسكرين؟ انزعي خمرك عنكِ» لم يُميز الرجل مثابرتها ولا إيمانها حتى هذا العمر، لكنه هال عقلها وقلبها بمزيد من الجلد. لقد جَلَدَ عِظامها بعدم تمييزه! كانت كلماته لها صدى ليس في قلبها فقط بل بين كل ضلوعها! كان الأمر أشبه ببناء تصدّع مع مرور الزمن، وها الآن جاءت إليه هيئة الأبنية وأزالت عنه كل جمال بالرغم من كونها منوطة بترميمه!
كان من الممكن أن تفقد أمي رجائها بسبب كلماته إلا أنها أمسكت بقرن مذبح الوداعة فكان لها مُنقِذًا. قالت له «إِنِّي امْرَأَةٌ حَزِينَةُ الرُّوحِ وَلَمْ أَشْرَبْ خَمْرًا وَلاَ مُسْكِرًا» لقد كانت الآمها اقوى من تلك الحجارة التي رجفت قلبها بالكلمات فلم تتأثر بسوء ظنه وقالت له «لِتَجِدْ جَارِيَتُكَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ» وهكذا مضت من أمامه ولم يتغير وجهها ولم تسئ إليه أو تنسب له حماقة ببنت شفةٍ.. لقد كانت أمي عظيمة!
بهذه الأفكار أنهيت يومي وأنا على وسادتي! ولم أعلم لماذا راودتني هذا الأفكار التي حدثتني أمي عنها قبلًا إلا انني صليت أن ينزع الله عني كل فكر او انطباع عن هذا الكاهن العظيم «عالي»، وقلت: «اعطني يارب ألا أُفكر في أحد بالسوء او التقييم.. اجعلني اتسربل بروح التمييز والحكمة التي لك.. ».
أتذكر أنني في تلك الليلة أفقت على صوت يناديني مرتين «يا صموئيل» وهممت نحوه سريعًا مُجيبًا «هأَنَذَا لأَنَّكَ دَعَوْتَنِي» ولكنه قال لي «اذْهَبِ اضْطَجعْ، وَيَكُونُ إِذَا دَعَاكَ تَقُولُ: تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ»
وحالما عُدت إلى مكاني انتابتني الأفكار «كيف لطفل مثلي أن يسمع المواعيد؟ إلى الآن لم يُطلب مني أكثر من سوى خدمات بسيطة: أن أغلق وأفتح أبواب خيمة الاجتماع.. أن أوقِد المنارة ذات السبع سروج، واخرى بسيطة.. كيف لمثلي أن يُكلمه الله» لماذا لم يقذفني الرجل العظيم بأنها «تهيؤات!!» أو انه حلم!.. تذكرت هل صار للرجل حواس مُدربة للتمييز؟! وتذكرت صلاتي وافكاري قبل نومي!
كان ممكنًا لعالي الكاهن أن يتخذ موقفًا على أساس أنه هو المستودع الوحيد للأسرار الإلهية، وأن يحذرني من الإصغاء للأوهام الباطلة، وأن يسمح لنفسه بأن تتحكم فيه عوامل الحسد والشك التي لا ضابط لها، وأن يتمسك بعزة رأيه!.. لقد قال لي «وَيَكُونُ إِذَا دَعَاكَ تَقُولُ: تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ» لم يقف حائلًا بيني وبين الله، إنما قادني في وداعة شديدة بأن أسمع لأسرار الله، بل ولم يقوده الحقد ألا يتابع معي ماذا حدث، لكنه في الصباح استدعاني أن احكي وأقص له عما صار وسيكون!
وهكذا في ليلة واحدة صليت ألا انظر للرجل بكونه غير مُميزًا، وها في تلك الليلة عينها يقودني الرجل ذاته لأسمع تدبير الله نحو شعبهِ! .. وها أنا الآن لستُ بصدد أن أنظر للرجل من جهة ضعف تربيته للأولاده واجترائهم ايضًا على الذبيحة، ولكنني أتذكره بكل فخر، وأتذكر كيف أنه في تلك الليلة المشئومة جلس بالرغم من وهن جسده يراقب في اضطراب موقعة أفيق، أتذكر أنه لم يسقط حين قيل له «هَرَبَ إِسْرَائِيلُ أَمَامَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَكَانَتْ أَيْضًا كَسْرَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الشَّعْبِ» أو حين قيل له «مَاتَ أَيْضًا ابْنَاكَ حُفْنِي وَفِينَحَاسُ» بل سقط ووقع ومات حين سمع خبر تابوت العهد أنه أُخِذَ «وَكَانَ لَمَّا ذَكَرَ تَابُوتَ اللهِ، أَنَّهُ سَقَطَ عَنِ الْكُرْسِيِّ إِلَى الْوَرَاءِ إِلَى جَانِبِ الْبَابِ، فَانْكَسَرَتْ رَقَبَتُهُ وَمَاتَ» حقًا كان «رَجُلًا شَيْخًا وَثَقِيلًا. وَقَدْ قَضَى لإِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» إنه رجلًا عظيمًا في جيله.
ربما رثى صموئيلُ، عالي الكاهن، بهذه الأفكار أو ربما اكتفى بالتفكير في هذا، وربما أيضًا لم يحدث! ولكن حتمًا هناك حاجة مُلحة في كل عصر إلى رجالًا ذي استنارة مُميزين دروب الرب، والروح يعطي المتضعين «فالآن يا أحبائي الذين صرتم لي أولادًا اطلبوا نهارًا وليلاً لكي تأتي عليكم موهبة الإفراز» (القديس أنطونيوس)