القمص يوحنا نصيف
    يَذكُر القدّيس لوقا في إنجيله (لو19: 11-27) مثَلاً قاله الربّ يسوع المسيح، مُشابِهًا لمَثَل الوَزَنات المعروف (مت25: 14-30)، ويَحمِل نَفس الفِكرة. فيه أعطى السيّد الشريف الجنس لعبيده أَمْنَاء (جمع "مينا" وهي عُملة يونانيّة تُساوي الآن حوالي سبع دولارات). وبعد أن سافر عاد ليحاسبهم؛ فكافأ الذين تاجروا وربحوا، وعاقب الكسالى والمتمرّدين.

    قَدَّمَ القدّيس كيرلّس الكبير عِظتين رائعتين في تعليقه على هذا المثل، أقتطف لحضراتكم بعض الفقرات الجميلة منهما:
    + لنتقدّم مرّة أخرى، ولنفتح عين الذهن باتّساعٍ، لكي ما ننال نور التعاليم المقدّسة، الذي يسكبه المسيح بغِنى على أولئك الذين يحبّونه؛ ولأنّه هو أيضًا النور الحقيقي الذي ينير الملائكة والرئاسات والعروش والسيادات، بل وأيضًا السيرافيم المقدّسين، ويُشرِق أيضًا في قلوب الذين يخافونه.

    + مجال المَثَل يُبَيِّن باختصار المغزى الكامل للتدبير الذي كان من نحوِنا، ويُمَثِّل سِرّ المسيح من البداية إلى النهاية. لأنّ الكلمة الذي هو الله صار إنسانًا.. وهو أيضًا إلهٌ يفوق الكلّ في الطبيعة وفي المجد.. عندما احتمل الآلام على الصليب لأجلنا، ولاشَى الموتَ بقيامة جسده من بين الأموات، فإنّه صعد إلى الآب، وصار كإنسانٍ مسافر إلى كورة بعيدة، لأنّ السماء كورة مختلفة عن الأرض.

    + المُخَلِّص يوزِّع على مَن يؤمنون به أنواعًا من المواهب الإلهيّة، ونحن نؤكِّد أنّ هذا هو المَعنى المقصود من الوزنة.. أمّا بخصوص طريقة التوزيع، ومَن هُم الأشخاص؟ وماذا تُعني الوزنات التي وزّعها؟ وإن كان لا يزال يوزِّعها إلى هذا اليوم؟ فهذه يُبَيِّنها الكتاب المقدّس بوضوح؛ فإنّ بولس الطوباوي يقول: "أنواع مواهب موجودة ولكنّ الروح واحد، وأنواع خِدَم موجودة ولكنّ الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكنّ الله واحد الذي يعمل الكلّ في كلّ إنسان" (1كو12: 4-6).. ويُقَرّر أيضًا أنواع المواهب على النحو التالي: "فإنّه لواحدٍ يُعطَى كلام حِكمة، ولآخَر كلام عِلم، ولآخَر إيمان، ولآخَر مواهب شفاء" وهكذا (1كو12: 8-9).. تنوُّع المواهب واضح في هذه الكلمات.

    + ائتمنهم المسيح على هذه المواهِب، بحسب قياس استعداد كلّ واحِد ومَيلِهِ؛ لأنّه يعرِف كلّ ما هو في داخلنا، إذ أنّه هو الله ذاته الذي يفحص الكُلَى والقلوب.. التوزيع صار بحيث يُناسِب قياس المَلَكات التي لكلّ واحد.. الكاملون في الذهن يناسبهم الطعام القوي، والذين لهم الحواس مُدَرَّبة على التمييز بين الخير والشرّ (عب5: 14)، هم أولئك الماهرون في التعليم باستقامة، وعلى معرفة بالتعاليم المقدّسة، الذين يعرفون كيف يوَجِّهون أنفسهم والآخَرين إلى كلّ عملٍ أفضل.. الممارسة والقصد المُجتَهِد للقدّيسين أن يجعلوا الذين يعلّموهم شركاء للنعمة التي أعطاها المسيح لهم.

    + توجَد كرامات وانتصارات وأكاليل لِمَن تعبوا وأحبّوا الخدمة، لكن يوجَد خِزي لأولئك الذين تَسَلَّطَ عليهم الكسَل؛ لأنّ الذي أخفى مَنَاه في منديل صار عُرضَةً لدينونة مُرعِبة..

    + من واجب المُعَلِّمين أن يزرعوا ويغرِسوا المشورة النافِعة والخلاصيّة في أذهان سامِعيهم.. هذا هو الربح، لأنّ أولئك الذين يسمعون الكلمات المقدّسة، وقتما يَقبَلون في ذهنهم منفعتها، أي قوّة الكلام، ويجتهدون بفرحٍ في العمل الصالح، حينئذٍ فَهُم يُقَدِّمون ما أُعطِيَ لهم مع زيادة.

    + ذلك العبد الكسول تَجَرَّدَ حتى من الهِبة التي أُغدِقَتْ عليه؛ أمّا أولئك الذين تقدّموا في الطريق الأفضل، وبرهَنوا على أنّهم مرتفِعون فوق التكاسُل والتراخي، فسوف ينالون بركاتٍ جديدة من فوق، وإذ قد امتلأوا بالمواهب الإلهيّة فسوف يرتفعون إلى نصيب مجيد ومُثير للإعجاب.

 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 128-129) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف