عادل نعمان

وكنا نستبق الأحداث ونستعجل النصر بعد نكسة أو هزيمة 67، ثأرًا لكرامة أمة جرحها أبناؤها قبل أعدائها، وأساء لها من حارب دون دراسة فى لحظة عجرفة دون حسابات العواقب، والعواقب فى الملمات عصية على شعب أبى جريح. يخرج علينا الرئيس السادات معلنًا فى خطاب رسمى مذاع أن عام 72 هو عام الحسم، ويمر العام من فوق رؤوسنا دون حسم أو قرار، ويغيب الحلم عن الرؤوس وينطفئ الأمل فى النفوس، حين يعلن السادات أن ضبابًا سياسيًّا قد ظهر فى الأفق حال دون تحقيق الحسم وتنفيذ القرار، ونخرج من جامعة القاهرة بمظاهرات مدوية هادرة نطالب فيها الرئيس السادات «بضرورة محاكمة الضباب»، لم نفهم السادات جيدًا، ولم نستوعب ونحن شباب أن قرار الحرب والعبور مهما كانت وعوده وأحلامه ورغباته الملحة إذا ظهر فى الأفق ما يحول بينه وبين تحقيق الهدف منه، فلا حرج فى التراجع والتأجيل مهما واجه القائد من تعنيف وتجريح، فليست قرارت الحروب هينة أو يسيرة، ولا تحتمل إلا النصر فقط، كنا صغارًا يا كبير فلم نفهم كيف يحول ضباب السياسة عن قرار الحرب.

 

فى نهاية عام 74 كنت أحد ضباط الاحتياط الدفعة 36 المكلف برئاسة إشارة أحد لواءات المدفعية فى القنطرة شرق وغرب القناة، وكانت قيادة اللواء غرب القناة، وكتائب اللواء الثلاث شرق القناة موزعة داخل سيناء، والمرور على هذه الكتائب متاح ومطلوب كل الأيام، وكان العبور الأول على أحد المعابر يمثل لى نصرًا عظيمًا وفخرًا تحقق على يد رفاق قبلنا بشهور قليلة، ما زال مسرح الحرب قائمًا لم تسدل ستائره، أشم روائح النصر تلف المكان، وأسمع فيه تلاحق أنفاس الأبطال الصاعدين الساتر الترابى المنيع، وتحت المعبر أمواج هادئة راسية تزف دماء الشهداء الأبرار إلى الشاطئ تهدأ وتستريح، وتدوى فى مسامعى طلقات المدفعية وأزيز الطائرات ولا أفيق إلا على صوت السائق يتساءل: أى كتيبة نبدأ بها يافندم؟ أفيق من الواقع وأرد عليه بنا إلى مقابر الشهداء أولًا، على بعد أمتار من المعبر وقبل الدخول إلى مدينة القنطرة شرق، تمام يافندم لنقرأ الفاتحة على أرواح الشهداء.

 

مقابر الشهداء بسيطة وتضم رفات أبطال وهبوا حياتهم للانتقام والثأر لإخوانهم.. أرتجل من السيارة وأبدأ قراءة الفاتحة عند الباب وتخطو قدمى وسط المقابر ترتعد وعينى تتجول بين أسماء الشهداء على لوحة من الخشب البسيطة، على مقابر من ركام وتراب مرتفعة عن الأرض، ذكرتنى بمقابر الأطفال على مشارف الكبار، فى قريتنا ينبهك من فى صحبتك: رويدًا فهذا قبر طفل صغير حين يمددونه على باب قبر الأب والجد فربما يكون شفيعًا لهما حين يكون فى مقدمة الوصول. هذا شهيد من طنطا وبجواره من سمالوط ورفيقه من الكردى، وهذا مسلم وذاك مسيحى، التجول داخل مقابر الشهداء له طعم خاص ورائحة كرائحة البيوت القديمة العتيقة حين يهجرها الأهل، فتسمع صرير الأبواب وصدى السنين ورجع الأيام، وأصوات الأحباب تتلمس أطياف الصبر، كأن هؤلاء الممددين تحث الثرى فرحون مبتهجون بمجيئك تلطف عنهم عناء الغربة والهجر، أسمع بكاء عاليًا ونحيبًا متقطعًا يلملمه السائق، ماذا بك؟ هون عليك؛ فهم أحسن منا وأطهر، يافندم أنا أبكى هذا الجندى المكتوب على قبره «شهيد مجهول الاسم والسلاح» أجيبه لا تحزن ولا تبك وأكتم بين ضلوعى آهات وزفرات ربما لو تركتها بحريتها لسمعها من فى القبور.

 

ثلاث سنوات مدة خدمتى إلا قليلًا ضابطًا احتياطيًّا قضيتها بين الكتائب الثلاث فى الشرق وقيادة اللواء فى الغرب، ولا أجد راحتى وسلوتى إلا فى غناء الضابط مسعد على شط القناة كل ليلة، والمرور على مقابر الشهداء نهارًا، أحيانًا فى الذهاب وأحيانًا عند العودة، تآلفنا وتفاهمنا وتحاببنا حتى أكاد أشعر بفرحتهم تحت الثرى حين مقدمى، ونسائم أنفاسهم تفوح وتقترب من بوابة المقابر حين حضورى، أطفالى يمدون أيديهم فى شغف حين وفادتى، إلا ذلك اليوم الذى غادرت فيه قيادة اللواء بعد انتهاء خدمتى وتسليم مهماتى إلى قيادة جديدة، وفى عجلة من أمرى نسيت الرفاق والأحباب والأطفال لألحق بالسيارة المخصصة لرحيل دفعتى، أرحل وأسافر عبر الدنيا والسنين ومازلت أحن إلى أطفالى، وأشعر بمرارة اليتم تحاصرنى، وشغف ولوعة صغارى تطاردنى، فلربما لو كنت قد ودعتهم الوداع الأخير لغفروا وسامحوا وكبروا دون حاجة، أكثرهم شوقًا إلى قلبى صغيرى مجهول الاسم والسلاح، فهو الضعيف حتى يكبر والغائب حتى يعود والمريض حتى يشفى وما زال. وأعود إلى محاكمة الضباب فأحكم ببراءة السادات، فقد كان حكيمًا حين حافظ على أبنائه ولم يعبأ بما فعلناه وسخرنا منه وتظاهرنا عليه، ألف رحمة على كل شهداء الوطن المعروف منهم والمجهول أكثر.

نقلا عن المصرى اليوم