محمد يونس
صيف 1967 .. كنت أسيرا بيد الجيش الإسرائيلي في معسكر عتليت .. كانت حياتنا بائسة .. طعام قليل ..و مكان إقامة سيء .. حزاني ..وضعاف الجسد .. نعيش في قلق علي ما يحدث في مصر بعد هزيمة مخجلة .
في يوم طلبوا عدد منا للإستجواب .. أخذونا إلي مكان بالمعسكر به قمصان بيضاء و بنطلونات بيج ..و طلبوا منا أن نرتديها بدلا من أوفرولات الأسر المعلمة بالبوية .. وذلك لقيامنا باول زيارة لإسرائيل..
كان نصيبي قميص ضيق..و بنطلون واسع ربطته بدوبارة عند الوسط .. فاصبح شكلي مضحكا ..أو هكذا تصورته فلم تكن هناك مراة نرى فيها أنفسنا
الزيارة بتفاصيلها .. ذكرتها في كتابي (( خطوات علي الأرض المحبوسة )) .. أنقل منه الجزء الخاص بمقابلة بعض سكان الناصرة من الفلسطينين .
.تفرقنا بين المضيفين و كان نصيبي أن أجلس بجوار ثلاثة من المدرسين أحدهم يدرس الفلسفة لفت نظرى أنه أزرق العينين.. (( قدموا لنا السجائر الأمريكية و الحلويات الشامية و الشيكولاتة و القهوة و الشربات .. كل شوقهم للعرب خارج إسرائيل تركز في هذه الزيارة .. شعور الإنسان الذى وجد أهله ..الإستقبال الحماسي أذاب ثلوج الغربة سريعا ..و فتح باب الحديث .. دو العينين الزرقاوين يسألني بصوت منخفض لا يصل للمرافق الإسرائيلي ما الحل ؟
أهمس ... أعتقد أنه لا يوجد إلا المقاومة المسلحة السرية .
يرد ..المقاومة بهذه الصورة لا يمكن أن تجدى ماذا يعني نسف فنطاس أو وضع لغم تحت جرار زراعي .. أؤيدك أنها قد تكون فعالة و حاسمةعندما يحين وقتها (من خلال معركة شامله ) و عندئذ لابد من تصعيدها و لكن حتي يتم ذلك ..ما العمل ؟
كان أمامي أحد الطريقين أن أسمعه أو يسمعني ففضلت أن أسمع الصوت المحبوس داخل السجن الإسرائيلي.. لذلك قلت له أنني كنت بعيدا عن الأخبار منذ مدة بحيث لم يعد لدى حلولا و لكنني سأكون مستمعا جيدا .
رد .. المعركة يا عزيزى في مصر لا شك أن مصر أكبر دول المنطقة وهي أملنا بقيادتها الثورية و لكن تجربتنا مع هؤلاء لثلاث مرات أثبتت أننا لابد و أن نصل إلي مستواهم الحضارى و التكنيكي .. بمعني أنه لابد و أن تقفلوا علي أنفسكم الباب مدة حتي تتقدموا حضاريا..و بعد ذلك الحرب ))
سكت قليلا ثم اضاف
(( شعبنا شعب مفكك ( يقصد الفلسطينيون ) و زعماء الدول العربية ساعدوا علي تفكيكه أكثر .. صدقني إن عيبنا نحن العرب أننا لم نتخذ الشكل العصرى للدولة بعد ..
إنهزمنا يا أخ لأنهم يخططون و يعملون بشكل علمي أما نحن فنترك أمورنا للمقادير .. علي مصر و أرجو أن تقول كلمتنا و تبلغها أن تتقدم و تصبح الدولة العصرية القادرة علي مواجهة إسرائيل .. لا بديل للحرب و لا بديل لتقدم العرب لنكسبها ))
.من قرأ (( خطوات اعلي الأرض المحبوسة ))التي كتبتها في سبعينيات القرن الماضي .. بعد رجوعي من الحرب .. يعرف أنني خلال فترة أسرى كنت مهموما بثلاث مواضيع ..
الأول قراءة التوراه لمعرفة أين يقع التناقض بيننا و بينهم ....و الثاني فهم وإستيعاب المناقشات التي دارت مع العدو.. و أساتذة الجامعة ..و المحاضرين من الزوار و السياسين و الموطنين من عرب 48.. أبحث عن حقيقة فكرهم و توجهاتهم ..الأمر الثالث هو رصد حياة الناس في حيفا و الناصرة ..و الكيبوتزات .. ..ماذا يلبسون .. و يأكلون .. و علاقتهم بعضهم ببعض .. و كيف يتصرفون في الشوارع ..أو في المزارع يزرعون القطن مع نقص المياة .. أو يديرون في الجامعة العبرية عام 1967 كومبيوترا عملاقا.. لقد تحولت إلي كاميرا ناقلة لكل ما يدور حولي و يتصل بمن أسروني .
في نهاية الفترة .. كنت علي يقين (مازلت لم أغيره ).. أن الصراع بيننا ليس دينيا بالتأكيد .. فلا يوجد ثأر يستمر ل1400 سنة..فضلا عن أن التوراة لا تتعارض مع كتبنا المقدسة ..و أن أغلب اليهود لا دينين .
و الصراع أيضا ليس بين القوميتين الناهضتين العربية و اليهودية ..فالحماس القومي الذى كان قائما قبل الحرب العالمية الثانية ..إختفي و ترك مكانه التعاطف الإنساني ..و المصير البشرى المشترك ..
و لكنه في الاساس تناقضا حضاريا .. بين قطعة منقولة من أوروبا دست بين قوم يعيشون علي حدود القرن التاسع عشر
لقد سبقونا كثيرا ..و تعلموا .. و غيروا حياتهم .. و جعلوا من رجال الدين الذين لا يقلون رجعية عن سلفيينا ..أقلية سواء في الحكم أو في التأثير علي توجهات المجتمع ..
أخذوا الكثير من الإشتراكية الفابية البريطانية و طبقوها في الكيبوتزات ..و أخذوا المفيد من الرأسمالية نشطوا به المبادرة الفردية ..
و إستخدموا المعونات و التعويضات في بناء صروح علمية ..و فكرية .و خدمية .جعلت منهم اقرب منا للأنسان المعاصر
نصيحة الفلسطيني أستاذ الفلسفة .. لم يفكر فيها ناسنا..بل حدث العكس بعد السبعينيات .. فالتدهور غطي سلوك وفكر أغلب شعوب المنطقة بعد نشر الخطاب الوهابي السلفي الذى حارب بكل قوة الصحوة الحضارية بالعراق و الشام و مصر ..و قضي عليها..
وعلي كل ما كان يحمل سمة الحضارة الغربية حتي في لبنان و الأردن و تونس و المغرب . . الاقرب لنمط الحياة المعاصر
الكارثة التي حلت بمجتمعاتنا كانت تسونامي يحمل الدولارات قادم من شبه الجزيرة العربية و دول الخليج .. رعته ديكتاتوريات حاكمة من أوليجاركية فاقدة الهدف و إلإتجاه ملكت شعوب المنطقة ودمرت كل إمكانية ..لنمو فكر و سلوك معاصر.
لقد ضاع علينا نصف قرن من الغفلة ..و السكون ..و عدم القدرة علي قراءة أسباب القوة التي تجعل طرف يعيش يكسب معاركه في القرن العشرين.
.و تهنا .. نضرب بعضنا بعضا .. و نحلم .. أن الحق(من وجهة نظرنا ) سيتغلب في زمن قريب .. لان السماء مع المتقين ..سواء كانوا سنة أخوان من حماس أو شيعة من حزب الله .
واقع اليوم محزن ..فبينما القوات الغازية تدمر غزة و لبنان نجد أن أكوام الأسلحة المخزنه لدى اغنياء و فقراء القوم.. صامته تدعي الحكمة ..و رجال السياسة العرب يناورون بخطابات مائعة.. و رجال الدين يتراوحون بين الصخب بصوت عال و التأييد إذا لاح نصرجزئي و الصمت.. عندما يرون أن السماء لم تدعم المتقين و تركتهم يستشهدون
بكلمات أخرى .. من نصف قرن .. كتبت أن المعركة بيننا و بينهم ليست تجميع سلاح ..و لا خطابات رنانه ..و لا تأييد سلبي للإنتفاضات و المقاومة المسلحة .. و إنما تدور حول مدى التقدم العلمي و التكنولوجي و السياسي الذى يملكه كل طرف ..
وها أنا أعيد ..لا تخدعوا الناس إنها ليست مشاكل مترسبة من زمن بنو قينقاع الذين غدروا بالمسلمين في المدينة ..و ليست متصلة بتفوق قومية علي أخرى مهما كانت إنجازات يهود العالم العلمية و الفنية ..وإنتصاراتنا الفقهية مع سيادة سلوكياتنا مظهرية التدين في التحجب و إطلاق اللحي .. لكنها ..تتلخص حول من منا يمتلك لغة العصر و علومه .. و يستطيع بهما السيطرة علي الأخرين .
عدد مواطني إسرائيل ..لا يزيد عن سكان حي من أحياء القاهرة ..و هم يعرفون أنهم قلة بين العرب لذلك هم علي حذر إستراتيجي ..توارثوة .. من زمن بن جوريون .. حين قال .. ((قوة إسرائيل ليست في السلاح بل في القدرة علي تخريب العراق و مصر و الشام )) .. فقاموا بكل السبل و الوسائل بتخريب أى ظرف قد يؤدى لتقدم دول الجوار ... صدقوني .. لم تعد الحروب تحسم بالعساكر و الصواريخ ..و لكن بإسقاط العدو من الداخل .. و كان لهم ما خططوا من أجله .